تمثل الصين بالنسبة للولايات المتحدة القطب الدولي الصاعد الذي يمكن أن يمثل تهديداً حقيقياً لوجودها على قمة النظام العالمي، ولذا فإن إدارة العلاقات معها تحتاج إلى حنكة وحكمة شديدتين لتقليل المخاطر على المكانة القيادية العالمية للولايات المتحدة من الصعود الصيني الدؤوب على المسرح الدولي إلى أقل حد ممكن. ومع ذلك فإن الإدارة الأميركية للعلاقات مع الصين تكشف عن تضارب غير مفهوم، لأن تناقضه مع اعتبارات الرشادة يبدو واضحاً في حالات محددة، وعلى سبيل المثال فقد كشفت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا منذ فبراير الماضي عن تحدٍ روسي غير مسبوق للدور القيادي الأميركي لم تترك الإدارة الأميركية وسيلةً لمواجهته إلا واستخدمتها. وكان من هذه الوسائل محاولة تفادي أي دعم صيني لروسيا في هذه العملية، خاصة أن الصين حافظت على موقف محايد من العملية الروسية فلم تؤيدها ولم تُدنها. وكان واضحاً أن الصين وإن التزمت الحياد شكلاً، فإنها تتفهّم الهواجس الأمنية التي دفعت القيادةَ الروسيةَ لفعل ما أقدمت عليه، ولا تشارك بحال في العقوبات على روسيا.
غير أن تصرفات الإدارة الأميركية لاحقاً بدا وكأنها غير حريصة على كسب الصين إلى صفها كما ظهر من الزيارة غير المبررة لرئيسة مجلس النواب الأميركي لتايوان، والتي أثارت غضباً صينياً عارماً تُرْجِم في تصرفات عسكرية مثلت رسالةً لكل من الولايات المتحدة وتايوان بأن الخط الصيني الأحمر بالنسبة لتايوان ليس موضعاً لأي شك. وفي الشهر الماضي، أي بعد أكثر من 3 شهور على تلك الزيارة، بدا وكأن واشنطن تعود إلى جادة الرشادة باللقاء الذي تم بين الرئيسين الأميركي والصيني في مدينة بالي الإندونيسية على هامش قمة العشرين. وأشارت التصريحات المتبادلة عن هذا اللقاء إلى رغبة متبادلة في تفادي التصعيد، وقال بايدن إنه لا بديل عن المحادثات المباشرة وإن البلدين قادران على إدارة خلافاتهما وعلى منع تحول المنافسة بينهما إلى صراع، وأضاف أن العالم يتوقع منهما دوراً لمعالجة قضيتي التغير المناخي والأمن الغذائي. ومن جانبه لفت الرئيس الصيني إلى أهمية العلاقات بين بكين وواشنطن وضرورة رسم مسار صحيح لها، وقال إنه مستعد لتبادل الرؤى بشكل صريح وعميق بشأن القضايا الاستراتيجية بهدف تعزيز العلاقات الثنائية. وأعربت المصادر الصينية عن الأمل في أن يعيد اللقاء العلاقات إلى مسارها.
وفي الأيام الأخيرة مثّل قانون الميزانية الدفاعية الأميركية لعام 2023 نكسة واضحةً لهذا النهج الرشيد، فقد خصص القانون 10 مليارات دولار لتحديث القدرات الأمنية لتايوان، الأمر الذي أثار غضباً صينياً عارماً، وهو غضب مفهوم، كما أثار التساؤل مجدداً حول مدى رشادة النهج الأميركي لإدارة العلاقات مع الصين. وقد يقول قائل: هل تريدون من الولايات المتحدة أن تتخلى عن حلفائها؟ وهي صياغة غير دقيقة للمشكلة، فالولايات المتحدة تعترف بمبدأ الصين الواحدة، ولذلك فإن جهدها الأساسي يجب أن ينصرف لكيفية تحقيق هذا المبدأ سلمياً وبكل الضمانات المطلوبة لتايوان، ولن تعدم وسيلة لطمأنة تايوان، خاصة إذا بُذِلت جهودٌ مخلصةٌ وجادةٌ لتحقيق مبدأ الصين الواحدة. ولا يوجد تفسير أكيد لهذا التضارب في الخطوات الأميركية تجاه الصين، بين التقارب والاستفزاز. وقد يكون تعقد عملية صنع القرار الأميركي وتأثير قوى متضاربة عليه هو السبب، وقد يكمن السبب في المجمع الصناعي العسكري الأميركي، والذي حذَّر منه الرئيسُ الأسبق دوايت أيزنهاور في نهاية ولايته.. مما يفسر غلبةَ منطق العسكرة على السياسة في النهج الأميركي، في كثير من الحالات، وهو منطق دفعت البشرية ثمناً باهظاً له.

*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة