في عام 2015، وبينما كان يقود قارب «كاياك» في خليج مونتري قبالة ساحل كاليفورنيا، وجَد المخرج وعالِمُ الأحياء توم موستل وصديقته شارلوت كينلوتش نفسيهما فجأةً إزاء موقف مرعب: حوت أحدب يزن 30 طنا يخترق سطح الماء بالقرب منهما ثم ينزل بقوة على حافة قاربهما، ما أدى إلى انزياحهما من القارب وانقذافهما في لحظة سريعة واستثنائية خارجه في الماء. 
في البداية، وجد الاثنان صعوبةً كبيرة في جعل الناس يصدّقون روايتَهما، إلى أن ظهر على الإنترنت مقطع فيديو صوِّر من قارب مجاور يوثِّق ما جرى، ليتحولا بين عشية وضحاها إلى نجمين في نشرات الأخبار وتنتشر قصتُهما في وسائل التواصل الاجتماعي انتشارَ النار في الهشيم. 
اللقاءُ مع الحوت ألهب حماس موستل بدلا من أن يرعبه، إذ عقد العزم على فهم هذه الحيوانات بشكل أفضل. ونتيجة بحثه العالمي عن المعرفة ضمّنها في كتابه «كيف تتحدث لغة الحوت.. رحلة إلى مستقبل التواصل بين الحيوانات». إنه كتاب رحلة، ودرس تاريخ، ونقد للمجتمع العلمي في ما يتعلق بدراسات الحيوانات، واستراتيجية للحفاظ على هذه الأحياء البحرية الضخمة باستخدام التكنولوجيا العالية... كل ذلك بين دفتي كتاب واحد. وهو قبل ذلك كله نصٌّ مشوقٌ يبعث على التفكير والتأمل، ويمنح قارئه شعوراً أكبر بتعقيد هذه الكائنات المهيمنة على الأعماق وقيمتها. 

  • رحلة إلى مستقبل التواصل بين الحيوانات

ومثلما اكتشف موستل، فإنه حتى إذا كان لا يستطيع حالياً أن يسأل حوتاً لماذا يفعل ما يفعله، فإن هناك فوائد ومزايا نجنيها عندما نبذل جهداً من أجل فهم وتعلم ولو جزء يسير عن العالَم المحيط بنا. وعلى سبيل المثال، يقاسم المؤلفُ قرَّاءَه تاريخاً موجزاً لعالِم الأحياء الأسطوري روجر باين واستكشافه لأصوات الحوت خلال عقدي الستينيات والسبعينيات. في ذلك الوقت، كان قطاع صيد الحيتان يقتل الملايين من عمالقة البحر هذه، مما قلّص أعداد الحوت الأزرق على نحو خطير «إلى أن لم يتبقَ منها سوى 0,1 في المئة». أخذ باين تسجيلاته لأصوات الحوت وحوّلها إلى ألبوم في عام 1970 تحت عنوان «أغاني الحوت الأحدب»، ثم أقنع مؤسسة «ناشيونال جيوغرافيك» بتضمين نسخ من القرص الصوتي في عدد شهر يناير 1979 من المجلة. وبينما سُحر ملايين الأشخاص بالأصوات الغريبة والقوية لتلك الكائنات، ألهم ذلك احتجاجات عبر العالم، مما شكّل ضغطاً على قطاع صيد الحيتان. والآن، وبفضل نضال جمهور واعٍ ومتعاطف، بدأت فصائل مثل الحوت الأزرق تتكاثر من جديد. 
والواقع أنه مما يثلج الصدرَ رؤية كيف أدى تعلم واكتشاف أشياء حول أصوات الحيتان، مثل الشقشقات والطقطقات والنداءات، إلى قدر أكبر من التعاطف والاهتمام بهذه المخلوقات. وهو ما يعبِّر عنه المؤلف على هذا النحو: «كلما تعلَّمنا أشياء أكثر عن الحيوانات الأخرى واكتشفنا دلائل أكثر على قدراتها المتعددة، ازداد اهتمامنا بها، وهذا يغيّر طريقةَ معاملتنا لها». 
وفي قلب كتاب موستل يُلمس تقديرٌ واحترامٌ كبيران للكائنات غير البشرية. وعلى الرغم من تحيز متأصل في المجتمع العلمي يعزِّز مكانةَ البشر ويكرِّسها في مرتبة أعلى، إلا أن عقوداً من البحث تُظهر أن الحيوانات تتقاسم مع الجنس البشري أشياءَ أكثر مما ندركه. وعلى سبيل المثال، فإن بعض أنواع الحيتان تقيم صداقات، وتحزن حين يموت واحد من ذويها. كما أنها تلعب، وتستمع بالنظر إلى نفسها في المرآة، ولديها ثقافات سلوك مختلفة تبعاً للمكان الذي نشأت فيه. 

وبفضل تضافر مواهب عدد من مهندسي الحاسوب من «سيليكون فالي»، تزداد البحوث في مجال الحيوانات وتتطور بوتيرة أسرع ونطاق أوسع وأكثر تفصيلا من أي وقت مضى. فالباحثون باتت في حوزتهم اليوم أدوات جديدة، ومن ذلك طائرات مسيّرة في الماء وعلى السطح، إضافة إلى أجهزة تسجيل صغيرة على الحيتان وحولها. وباستخدام أحدث ابتكارات البرامج الحاسوبية، بات العلماء أخيراً قادرين على جمع كميات ضخمة من البيانات، وعلى فرزها وترتيبها في زمن أقصر. ومن خلال أبحاثهم، تسعى «مبادرة ترجمة الحيتان» إلى تطوير ما يشبه «ترجمة غوغل» خاصة بالحيوانات. 

وعلى غرار كتابه، يأمل موستل أن تساعد هذه الدراسات المتواصلة حول البحار والمحيطات في إيصال رسالة مفادها أن الحيتان كائنات ذكية، ومتعددة الجوانب، وجديرة بأكبر قدر من العناية والاهتمام. 

محمد وقيف

الكتاب: كيف تتحدث لغة الحوت.. رحلة إلى مستقبل التواصل بين الحيوانات

المؤلف: توم موستل

تاريخ النشر: 2022

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»