لا أعني هنا تجريد الإنسان من صفاته الفطرية، لكن عندما تصبح مكونات الفرد الشخصية والفكرية والدينية معضلات، نقول إن أضعف الإيمان أن يكون المرء مجرد إنسان له كل التقدير والاحترام والإكرام، وهو موقف القرآن الكريم: «ولقد كرَّمْنا بني آدم..»، فقط نقطة على السطر.
أمشي أحيانا حول الحدائق العامة لممارسة رياضة الجسم والفكر والتأمل، فأجد مَن يناوب على إطعام الحيوانات السائبة في الطرقات والحارات وإسباغ بعض العطف عليها، فأقول لو أن بعض البشر يعاملون الإنسانَ مثل هذه الحيوانات والطيور لما سمعنا عن الحروب ولا المجازر، فضلا عن إصدار حكم العقوق على حقوق الإنسان. 
لا شيء أسهل من الكراهية، أما الحب فيحتاج إلى نفس عظيمة. نحفر في ذاكرة التاريخ للبحث عن الإنسان في أي مكان، كما تتفجر الحجارة أنهاراً وودياناً. نزور مصرَ في القرن التاسع عشر، لنطل على جبل بحجم أحمد عرابي لم يقدر عليه الاستعمار البريطاني نسفه، بل كل ما كان في مقدورهم هو نفيه، والنفي في شرعة العظماء سياحة مجانية للنقاهة والاستجمام. يُنفى عُرابي الثائرُ إلى «سيلان»، لكي يحل فيها 20 عاماً مجرد إنسان، أينما وقع نفع كالغيث لا يفكر على مَن يمطر خيرَه العميم.
لا يوجد مصدر كتب في ذلك الوقت عن عرابي الإنسان إلا صحيفة «الأوبزيرفر» السيلانية الأسبوعية في عددها الصادر بتاريخ 20 يناير 1883، حيث تقول: «وقد صعد مراسلنا إلى ظهر السفينة وقابل عرابي.. وهو قد سجَّل أن عرابي يبدو إنساناً طيباً، والسماحة واضحة في وجهه، وله ابتسامة فيها بساطة وفيها كبرياء أيضاً.. ويبدو من كلامه وحركاته أنه إنسان من السهل أن تحبه..». 
علمتني الحياة أن الإنسان مثل النبات؛ يُزهِر بقدر ما تمنحه أرضُه، يزهر ورداً وياسَمين. وفي قلب كل إنسان نبتة صالحة.. إن سقاها بالخير تفرّعت وأينعت له بستاناً.. وإن سقاها بالشر فسدت وأفسدت أرضَه.
مَن كان إنساناً، يدرك حقيقة التعارف بين مختلف الأديان والشعوب: «إنا جعلناكم شعوباً وقبائلَ لتَعارَفُوا، إن أكْرمكُم عند الله أتقاكم..».
والإسلام يحمِّلنا واجباتٍ أكبرَ من غيرنا للمبادرة إلى التقرب والإحسان لأهل الديانات الأخرى احتراماً واستمالةً لقلوبهم.. أن نبرهم ونحسن معاملتهم طالما هم يعيشون معنا اليوم حالةَ سلام ولم يبدؤونا بالحرب: «لا يَنْهاكم اللهُ عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين» (الممتحنة: الآية/ 8).. أن نكون كرماء وأن ندرك أن العفو والتسامح وحسن الأخلاق هو ما يجذب الناس لديننا الإسلامي. وقد استطاع التجارُ العربُ نشرَ الإسلام في أندونيسيا والملايو وأفريقيا بأخلاقهم الحسنة وتعاملاتهم الراقية.
وقد ينسى البعضُ أن المصطفى العدنان صلى الله عليه وسلم، كان إذا وقف أمام المرآة يدعو ربَّه سبحانه وتعالى قائلا: «اللهم حسٍّن خُلُقي كما حسَّنت خَلْقي». نحن اليوم أحوج إلى النظر في مرآة الإنسانية لكي نصلِح المواضع المهشمة منها، لا المساهمة في كسرها. 
ولا بد أن نعي بأن هذا هو قدَرنا وقدْرنا لدى الآخرين، أي التدبير بميزان الحكمة، والتعامل بميزان الرحمة، والتقويم بميزان العدل.

*كاتب إماراتي