ربما قلة قليلة فقط من الصحافيين الأجانب كتبت عن أفغانستان بمثل عمق وتصميم الصحافي الكندي المقيم في كابول ماثيو آيكينز، وذلك منذ أن أطلق الحلفاء هجومهم الأول على «طالبان» في أكتوبر 2001 في ما سيعدُّ أطولَ حرب في تاريخ الولايات المتحدة. كتابه الأول «العراة لا يخافون من الماء.. رحلة سرية مع اللاجئين الأفغان»، يتعقب صديقه ومترجمه عمر أثناء رحلة فراره من حالة عدم اليقين الاقتصادي وانعدام الاستقرار السياسي في أفغانستان بحثاً عن حياة جديدة في أوروبا عام 2016.
ولئن بات من قبيل الكليشيهات القول إن كتاباً معيناً «عاجل» أو «ضروري» حين يلامس موضوعاً إنسانياً حساساً، فإن هذا الكتاب تحديداً يفيض بالمشاعر الإنسانية، وقد كُتب بإتقان لا تخطئه العين، وهذا يعود بالأساس إلى واقعيته وبراعة آيكينز في الوصف والتقاط التفاصيل الصغيرة ونقلها للقارئ. وبرفضه تحويل أشخاص عاديين علَقوا في ظروف استثنائية إلى أخيار أو أشرار، يصوغ آيكينز نصاً شاملا مفعماً بالأحاسيس أشبه بأكثر الروايات تشويقاً، لكنه قوي ومؤثر إلى أقصى الحدود لأن أحداثه حقيقية ومتواصلة. 

وفي صميم قصة الكتاب هناك علاقة آيكينز بعمر الذي عمل معه عن قرب لسنوات مترجماً في أكثر الظروف تقلباً في أفغانستان. يغادر عمر بلده مدفوعاً بحبه لامرأة تدعى ليلى. والدها، صاحب البيت الذي يستأجره عمر، لن يقبل بطلب تزويج ابنته للشاب السني الذي يؤجر له بيتَه إلا إذا استطاع هذا الأخير تحسين ظروفه المادية بشكل كبير. وعندما فشلت خطة عمر من أجل الهجرة إلى الولايات المتحدة عبر برنامج «تأشيرة الهجرة الخاصة»، لم يعد أمامه سوى ما يصفه آيكينز بـ«طرق المهرِّبين إلى أوروبا، وهي رحلة طويلة وشاقة ومحفوفة بالمخاطر عبر الجبال والبحار». وعندما غادر عمر، رافقه آيكينز لتوثيق التغريبة. 

  •  رحلة مع اللاجئين.. قصة يحتاج العالَمُ سماعَها

آيكينز، الذي أخفى هويتَه المهنيةَ كصحافي، تخفّى في هيئة مهاجر يدعى «حبيب». كانت القصة التي اختلقها أنه ولد في كابول، لكنه نشأ وتربى في ماليزيا، تساعد على تفسير لكنة آيكينز الأجنبية قليلا حين يتحدث الـ«داري»، وباعتباره ابن أمٍّ أميركية يابانية وأبٍ كندي اسكتلندي، فإنه كثيراً ما كان يحسبه الناس شخصاً ينحدر من شمال أفغانستان. ولكن حتى بعد أن ترك جواز سفره في عهدة صديق، لا ينسى آيكينز أبداً أن جنسيته تفتح أبواباً لا يستطيع رفاقُه ولوجَها. 
انصب تفكير آيكينز على أخلاقيات الاختيار في رحلة لن يختارها إلا صحافي، وبالنظر لاستحالة التزام الحياد حينما يعيش بين الأشخاص الذين يكتب عنهم وقد أصبح جزءاً من قصتهم. وهذا صحيح بشكل خاص عندما يتكدسون في قارب خشبي مكتظ بالمهاجرين أمثاله على بحر هائج، حيث يحرص آيكينز، الذي يتقن السباحة، على أن تكون آخر سترة نجاة من نصيب صديقه عمر ويحضّر نفسه ذهنياً للأسوأ وللكيفية التي يمكنه بها أن يساعده في حال انقلب المركب. 
وخلال رحلة خطرة وشاقة معاً، يبقي آيكينز قرصَ الضوء مسلّطاً على عمر والمهاجرين الآخرين، موفِّراً معلومات كافية بخصوص السياق تجعلنا نتذكر دائماً ما هو على المحك في هذه البيئة عالية المخاطر والمتغيرة باستمرار. وفي بعض الأحيان، تزداد وتيرة الكتاب وتغدو مثيرةً، لاسيما مع اقتراب الكتاب من نهايته. غير أن الأحداث واقعية وليست خيالية، والخطر حقيقي. عمر وآيكينز ورفاقهما من المهاجرين الآخرين يتسلقون الجبال بمشقة ليكتشفوا أنهم سلكوا الاتجاه الخطأ وأن عليهم أن يعودوا أدراجهم ويبحثوا عن طريق آخر. وبعد ذلك، يوقفهم مسؤولون ثم يطلقون سراحهم، ثم يقبض عليهم من جديد. وفي اللحظة الأخيرة، يرسلهم أحد المهربين على متن قارب متجه تحديداً إلى الجزء نفسه من أوروبا الذي كانوا يأملون تجنّبه، ما أدى بهم إلى فترة حبس طويلة في أحد أسوأ مخيمات الاعتقال في الاتحاد الأوروبي. آيكينز سجّل كل ذلك، إذ كان يرقن ملاحظاته على هاتفه ليلاً، إلى أن بلغ مجموع ما سجّله أكثر من 60 ألف كلمة. 
بعض المواقف تحكي قصة أكبر. ومن ذلك مشهد رجل يوناني يصيح في المهاجرين الأفغان أن يسبحوا في البحر قبل أن يعتذر لهم قائلا: «قولوا لهم إن الأمر ليس شخصياً.. فنحن جميعاً عالقون وسط شيء أكبر منا». ويلمّح آيكينز إلى أن الدول الغنية تحب اللحظات التي توفر لحظات سعادة –رفع لافتات تقول «مرحباً بكم أيها اللاجئون!» أو تمنح جوائز إنسانية– لكنها تبدي اهتماماً أقل بالعمل الشاق المتمثل في دراسة الأسباب الكامنة وراء الهجرة الجماعية من البلدان التي مزقتها الحرب والمدمَّرة اقتصادياً. وبدلا من ذلك، كثيراً ما يقع ذلك العمل على عاتق الأفراد أو منظمات صغيرة لا تستطيع معالجة الأزمة الكبيرة والمعقدة. 
وخلال هذه الرحلة، يجد آيكينز الحب أيضاً، وإن كان حباً من نوع مختلف. فحينما أحاط يداه برأس طفل ليحميه عندما كانت الأمواج الهائجة تتقاذف القارب، وحينما كان يرقص مع أصدقاء جدد في ما يشبه قطعة من الجنة لا تخطر على البال في أثينا، وحينما يتقاسم سندويتشاً مع رجل هو أقرب من الأخ منه إلى الصديق، يتجاوز آيكينز دورَه كصحافي، ليعيش المساواة التي كثيراً ما تشدق بها السياسيون والنشطاء والزعماء الدينيون، لكن قلَّما يحققونها. 

آيكينز يريد أن يؤمن برؤية عالم يكون فيه التغيير المجتمعي وتغير المنظومة ممكناً، ولكنه يوقن في الأخير بأن هذه المثُل لا يمكن العثور عليها إلا «جزئياً». ومن هذه الأجزاء القليلة ينظم قصةً يرويها بإحكام، قصةً يحتاج العالم لسماعها الآن أكثر من أي وقت آخر.

محمد وقيف 

الكتاب: العراة لا يخافون من الماء.. رحلة سرية مع اللاجئين الأفغان
المؤلف: ماثيو آيكينز
الناشر: هاربر
تاريخ النشر: فبراير 2022

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»