رجيس دوبريه، فيلسوف فرنسي غزير الإنتاج، رصين التفكير، يتميز بدراساته العميقة حول الظاهرة الدينية في المجتمعات المعاصرة. لم يفتأ دوبريه في أعماله الأخيرة ينبهنا إلى أن المجتمعات الغربية خرجت من السياق العمودي للدين وأصبحت عاجزة عن تقديم تصورات مفارقة ومطلقة للوجود والتاريخ، بحيث احتل الاقتصاد والتواصل موقع الاعتقاد والعبادة.

وإذا كانت وظيفة الدين الأساسية، كما يرى دوبريه، هي توطيد الهويات الجماعية وجمع الناس على مقدسات مشتركة، فإن الأيديولوجيات التي أرادت تعويض الدين من داخل متخيَّله الرمزي، انحسرت مخلفةً فراغاً خطيراً تعاني منه المجتمعاتُ الراهنة.

ما يستنتجه دوبريه من هذه الملاحظات هو أن هذه الظاهرة خاصة بالمجتمعات الأوروبية الغربية، ولا تنسحب على بقية الدول والمجتمعات، بما فيها الولايات المتحدة الأميركية وبلدان أميركا الجنوبية التي تنتشر فيها على نطاق واسع الكنائس البروتستانتية الجديدة، فضلا عن المجتمعات الإسلامية والكونفوشيوسية.

لم يعد بالإمكان تفسير الاستثناء الأوروبي بنظرية «نزع السحر عن العالم» التي بلورها عالِم الاجتماع الألماني المعروف ماكس فيبر، وقوامُها الربط بين التقليد اللاهوتي في المسيحية من حيث هي «ديانة الخروج من الدين» وبين الرأسمالية الصناعية في تصوراتها العقلانية الوضعية للتنظيم الاقتصادي والاجتماعي.

ما يبرزُ اليومَ واضحاً هو أن موجة الأصولية الدينية في المسيحية تتقوّى في المجتمعات الصناعية المتقدمة، وفي البلدان التي تنتشر فيها الكنائس الإصلاحية التي ربط فيبر بها مسلكَ العقلانية الرأسمالية. بل إن مصطلح العلمانية (أو اللائكية) الذي يستخدم عادةً لتفسير ظاهرة حياد الدولة تجاه المعتقدات الدينية يحجب تنوّع تجارب إدارة الدين في الشأن العمومي رغم التشابه الظاهر بين الدول الليبرالية الغربية في القوانين المنظمة للحقل الديني.

الفرق واضح بين العلمانية الأميركية التي ظهرت كحل لمعضلة التنوع الديني وكمسلك لحماية الدين من سلطة الدولة مع الإبقاء على إطار ديني جماعي قومي، والعلمانية الفرنسية التي تبلورت من أجل حماية الدولة من قبضة المؤسسة الدينية، وأنماط العلمانيات الأخرى التي احتضنت الدين كعنصر محوري من محاور الهوية والنسيج الأهلي مع احترام مدونة الحقوق والحريات السياسية الفردية والجماعية.

في كتابه «العصر العلماني» يفرق الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور بين الجوانب القانونية الإجرائية في مقاربة الفصل بين الدين والدولة في الشأن العام وبين العلمنة من حيث هي مسار تاريخي واجتماعي أفضى إلى ظهور النزعة الإنسانية المكتفية بذاتها والمتمحورة حول نفسها. إن هذه التحولات كرست نمطاً من الزمنية الجديدة الفارغة المتناسقة في مقابل الزمنية الدينية العليا، وضرباً من الذاتية المنفصلة والمتصدعة في مقابل الذاتية الممتلئة الموصولة بالغيب والمطلق. ما يخلص إليه تايلور هو أن أزمة الروحانيات الغربية أصبحت اليومَ متعايشةً مع أزمة النزعات الإنسانية البديلة عنها، بما يعني أن حل الأزمتين لا بد أن يكون متزامناً ومترابطاً.

والسؤال المطروح هنا هو: هل ينحصر هذا الجدل في الثقافات ذات التقاليد المسيحية الغربية وحدها، أم يمتد إلى التقليد الديني في مجمله؟ يستخدم دوبريه وتايلور مقولةَ «السنن اليهودي المسيحي»، وهي مقولة بقدر ما تجمع في الواقع بين تقليدين شديدي الاختلاف، تقصي الإسلام من الأفق التوحيدي المشترك، ولذا فهي عبارة غير دقيقة ولا ملائمة كما كان يكرر محمد أركون.

هل يمكن أن تفرز اليهودية من حيث هي روحانية ومنظومة قيمية العلمنةَ الإنسانية المغلقة؟ لقد رد الفيلسوف اليهودي إيمانويل لفيناس بالنفي على هذا السؤال، مبيناً أن الأخلاقية اليهودية لا يمكن أن تنسجم مع فكر الذاتية المستقلة والقانونية المعيارية، لكونها تتأسس في أفق المفارق والمطلق الذي هو أفق المسؤولية والغيرية والضيافة الرحبة، وهي البدائل المختلفة عن النزعة الإنسانية المستندة لقانون الاعتراف والتعاقد.

كان لفيناس، ومعه عدة مفكرين آخرين مثل حنة ارندت وليو شتراوس، رافضاً لفكرة التقليد اليهودي المسيحي، وللتأليف الأوغسطيني بين لاهوت التجسد وفلسفة الوجود اليونانية، مما أفضى به إلى نقد النزعة الإنسانية المعلمنة الحديثة نقداً جذرياً.

وهذا النقد هو ما استند إليه هؤلاء المفكرون في إعادة الاعتبار لقيم محورية تمت القطيعة معها منذ عصور التنوير الأوروبي مثل: التقليد والسلطة وتأويلية الوصل والنقل.. إلخ. لا يتعلق الأمر هنا بإحياء اللاهوت الوسيط أو العودة للحالة الدينية الطائفية، بل بتصور آخر للدين في السياق الاجتماعي، يحافظ له على مركزيته الأخلاقية وقوته الرمزية والفكرية الدافعة ضمن شروط وحقائق الحداثة الليبرالية. وهكذا تظل العلمنة (اللائكية) تجربةً لاهوتية أوروبية خاصة، لا ينحصر فيها التفكير الممكن في المسألة الدينية.

*أكاديمي موريتاني