بقدر ما سررنا وافتخرنا بما أنجزه السعوديون والمغاربة في مونديال قطر 2022، ما سُرَّ أحدٌ ممن تحدثت إليهم مما جرى في باريس ومدن فرنسية أُخرى على أثر انتصار الفريق الرياضي الفرنسي على أسود الأطلس!

وكنتُ أظن إلى وقتٍ قريبٍ أنّ مشكلات العالَم المعاصر يقع في طليعتها التنافس الاستراتيجي وحروبه، وفنون وابتداعات وسائل الاتصال والذكاء الاصطناعي والاختلال البيئي، وأنّ الرياضة على أنواعها تظل بالمقارنة مع المشكلات السالفة فسحةً للراحة ولتصريف الطاقات الفائرة بأشكالٍ سلمية، سواء من جانب اللاعبين أو من جانب المشجعين. وبالطبع فقد جرت من قَبلُ أحداثٌ عاصفةٌ ودمويةٌ من جانب مشجعين في بريطانيا وأقطار أُخرى، لكنّ معظم التحليلات التي قرأتُها بعد كل حدثٍ عنيف كانت تعتبرها استثناءات، وتلقي بالمسؤولية تارةً على الشرطة وتارة على إدارة الملعب وما حوله وليس على الهوليغان.

لكنّ كل أحداث السنوات الفائتة تدل على أنّ العنف صار جزءاً من الرياضة أيضاً! إنّ التصرفات العنيفة صارت جزءاً من الرياضة التي صارت بدورها احترافاً وهوايةً مكلفةً جداً. وهذا أمر ينبغي اعتباره والتفكير فيه. لكنّ جانبه الآخر هو أنّ العنف الآتي من جانبنا - ولو كان ردَّة فعل- مختلفٌ عن عنف العالم كلّه! لدينا وعلينا من جهة عنف أربعة عقودٍ وأكثر لأسبابٍ مختلفةٍ، أبرزها العنف باسم الدين.

ولدينا أو علينا الضغوط التي تمارسها قلة ضئيلة ضمن الجاليات العربية والإسلامية في مواجهة السلطات والمجتمعات في أوروبا وجهات أُخرى من العالم. يذكّرني الصديق محمد السماك دائماً (والذي يكتب في جريدة «الاتحاد» أيضاً) أنّ ثلث المسلمين في العالم يعيشون في دول غير إسلامية، ويكون على هؤلاء (وعلينا) أن نصغي لشروط التعايش والاندماج مهما بلغت الأعباء لتظل الحياةُ ممكنةً وسط الظروف الصعبة التي تتجدد فيها إكراهات الهويات الدينية والقوميات الصاعدة. قبل أيام وعندما كان الفريق الرياضي المغربي لا يزال يحقق الانتصار تلو الانتصار، قام عشرات الشبان المسلمين في بيروت يركبون الموتورسيكلات الصاخبة بمهاجمة «ساحة ساسين» في حي الأشرفية ذي الأكثرية المسيحية، وهي الساحة التي كان فيها شبان مسيحيون يحتفلون بمناسبةٍ خاصةٍ بهم لا علاقة لها بالرياضة. وأحدث ذلك انزعاجاً كبيراً لدى كل المسيحيين في لبنان! وهذا يعني أنّ عدم الانضباط وعدم الإحساس بالمسؤولية، هو ظاهرة موجودة ولا تقتصر على بعض الشبان المغاربة في فرنسا.

ونعرف أنّ تصرفاً فردياً من جانب مسلم في الفلبين أو تايلاند.. يُحسبُ - كما صار معروفاً – على كلّ المسلمين، وبخاصةٍ العرب منهم، في نظر كثيرين في العالَم بداعي كثرة السوابق! لقد اعتدتُ في عدة مناسبات على التذكير بمقولة السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر (1864-1920) الموجهة إلى السياسيين المحترفين والأساتذة المحترفين، وهي تقرر أنّ السياسي والأستاذ إنما يتأهلان للشهرة والفعالية بنوعين من الأخلاق: أخلاق الرسالة أو الاعتقاد، وأخلاق المسؤولية. أخلاق الرسالة تقتضي الإيمان بالمهمة التي ينذر نفسه لها، وأخلاق المسؤولية تقتضي الانضباط في إنفاذ ذلك الهدف أو تلك المهمة. فالرسالة ضرورية لأنها هي أخلاق الواجب، والضرورة نفسها تنطبق على المسؤولية والانضباط في الإنفاذ، بل إنها هي – أي تلك الأخلاق السلوكية – التي تُبقي على معنى الرسالة وحيوية الاحتراف. الرسالة مهما كانت سامية لا تُسوِّغ الانفلات في السلوك باسمها.

فالغاية لا تبرر الوسيلة. نحن، العرب والمسلمين، في حالة نهوض، وتجديد لتجربة الدولة الوطنية بعد انتكاساتٍ عديدةٍ ما نزال نعاني آثارَها. صحيحٌ أنّ أفعال القلة السلبية لن توقف حركة الدول والمجتمعات نحو التقدم. والدليل على ذلك الشراكات الكبرى مع الدول الكبرى في العالم والتي تنجزها دولنا وقياداتنا. لكن ما الداعي لهذا العنف وهذه الكراهية التي لا أفق لها غير المزيد من الإقصاء وسوء الظن وفقدان الثقة؟ الثقة والنجاح والقدرات البازغة، وتقديم السلم والتسامح.. كل ذلك يصنع الصداقات، ويخفف من العداوات، ويعين على استقبال الجديد وصنعه أيضاً. الصبر الصبر، الانضباط الانضباط، والأخذ على أيدي السفهاء، لتظلَّ لنا حياة، وتكون حياةً أفضل.

*أستاذ الدراسات الإسلامية - جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية