عُقدت الدَّورةُ العشرون لمنتدى الإعلام العربيّ بدبي(4-5 أكتوبر 2022)؛ منها ندوةٌ تناولت «مستقبل القلم»، والمقصود مهارة الكتابة. مِن أسماء القلم «اليراع»، تجده بيد الكاتب كالسَّيف بيد المحارب، ولأنّ اليراعَ منافسٌ للسَّيفِ، وقد يعلوه شأناً، أراد أبو تمام(تـ: 231هج) للأخير الغَلبة، قالها عند فتح عمورية(221هج): «السَّيف أصدقُ أنباءً مِن الكُتبِ...»(العماد الأصبهاني، البستان الجامع). 
يبدو يُراد للكتابة أن تكون «مهنة مَن لا مهنة له»، غير خاضعةٍ لضَوابِطَ. لا تتطلب موهبة، ولا قيود في الأسلوب، تكتب مثلما تتحدث. طرح سلامة موسى(تـ: 1958)، مبكراً(1934 مجلة الهلال) الاستعاضة عن لغة الكتابة إلى الكتابة المحكية، ليظهر «كُتاب بلا حدود»، حدود المهنة. 
فلو كان سلامة حياً لسره تطبيق ما دعا إليه، فالكلّ يرى نفسه مؤلفاً وناشراً، ينشر سطوره في وسائل الإنترنيت، ليست رسالةً ومعلومةً، إنَّما يسميه بحثاً ومقالاً. فالصُّحف محررها كاتبها تملأ الأثير، وأرى دعوةَ المقالةِ محررها كاتبُها عابثةً، فأكثر الكتابات «لواصق غوغل». 
أخذت تصدر كُتب انعدمت الضَّمائر في تأليفها، فليس هناك مِن حقٍّ لصاحبِ المعلومة أو الفكرةِ، فالمصادر عند هؤلاء لا وجود لها، عندما يُكتب ما يسمونه بحثاً والمصدر «ويكيبيديا»، التي فيها الغث قبل السَّمين، سقوط في التَّأليف. 
ليس أكثر مِن منتدى الإعلام مِن إثارة المخاوف؛ على مستقبل الكتابة، بسبب التقنيات الحديثة، وفق عالم الإلكترون الرَّهيب، فما هو مستقبل الكتابة: هل تبقى لها ضوابطُ، مع تقدم الوسائل؟! وهل تغيرت الكتابة وأساليبها بتغير الوسيلة حديثاً؟! 
لا يجوز استسهال الكتابة والتَّأليف إلى هذا الحد مِن الانحطاط؛ فليكتب أصحاب المذكرات مذكراتهم، وليُحرر الشِّفاهيُّ مِن الأدب والتَّاريخ، لكنْ لا يجوز بالقفز على الضَّوابطَ في الكتابة، لأنَّها حِرفة، شأنها شأن غيرها، تتطلب معرفةً وباعاً في الأسلوب والبحث. 
صحيح هناك ثقافة شعبية، في الشِّعر والأدب والفنون، غير أنَّ تسجيل هذه العناصر تحتاج إلى معرفة، لذلك، كبار الشَّخصيات مِن الغربيين يسلمون ما يكتبون إلى مختصين بفن الكتابة والبحث. 
ما نراه، أنَّ الفوضى في التَّأليف أخذت تزكم الأنوف، والذين يكتبون، ويقدمون أنفسهم مختصين صدقوا أكاذيبهم. بينما العِلم وفق المعتزلي إبراهيم النَّظام(تـ: نحو 231هج): «لا يعطيك بعضه حتَّى تعطيه كُلَّك، فأنت مِن عطائهِ لكَ البعضَ على خطرٍ»(الخطيب، تاريخ بغداد). 
إنَّها مشكلة كبرى، عندما يصبح هدف التَّأليف الشّهرة، فما قيمة نضد ألف صفحةٍ، وأنت غير قادر على معرفة كيفية البحث، باستخدام المصدر، كحقّ من حقوق الآخرين. نعم يُحاسب النَّاس على سرقة المال، ولكنَّ سرقة جهود الآخرين الفكريَّة، والتَّباهي بها تعد لُصوصيةً أكبر، لا بد أنْ تقف الحكومات ودور النّشر أمام هذه الظَّاهرة الخطيرة. 
أقول: مع اختلاف الوسائل، إنَّ كانت الكتابة نقشاً في الحجر، أو رسماً على الجلد، أو حبراً على الورق، بالباركر والشِيفر والتِّيكو، أو لمساً بالضّوء، تبقى لها ضوابطها، وهذا هو مستقبل القلم الزَّاهر على مدى الأزمان، وإلا فالكتابة بطريقة الفهلوة لصوصيَّةٌ مفضوحةٌ، لا يشعر بألمها غير الذين ذهبت عيونهم بحثاً عن المعلومة، فيُسطى عليهم، وتقدم على أنَّها أفكارُ منتحليها. 
أجد مقامةَ «تعلق الشّص في حلقِ اللّص»- المقصود اللِّص الثَّقافي- لائقة بالمنتفعين مِن أرباب التَّأليف والكتابة، يحشون ما يُصدرونه بمعلومات جاهزة، لم ينسبوها لأصحابها، ويدعون الاختصاص كذباً وبهتاناً. كانت مقامة «تعلق اللِّص...» تصوير لمنام في واعظٍ سرق أشعار أبي تمام(السّيوطي، البارق في قطع السَّارق).
* كاتب عراقي