سيدهارتا موخرجي، عالمٌ متخصصٌ في الأورام وأستاذ الطب بجامعة كولومبيا الأميركية، فاز بجائزة «بوليتزر» عن كتابه الأول «إمبراطور كل الأمراض.. سيرة ذاتية للسرطان» (2010)، وما انفك يحظى باهتمام ومتابعة منذ ذلك الحين. وفي كتابه الجديد «أغنية الخلية.. استكشاف الطب والإنسان الجديد»، يكرّر موخرجي صيغةً جذابةً وناجحةً استخدمها في كتابها الأول، إذ يسرد قصةً حيةً مؤثرةً ثم يربطها بالعلم بشكل عام. قصة من قبيل إصابة صديق عزيز بسرطان الجلد القاتل، أو مرض مريض معيّن وعلاجه الناجح، أو تجربته الخاصة مع الاكتئاب، أو كفاح باحث في الماضي والحاضر.
يكتب موخرجي جملاً واضحةً مستخدماً المجاز والاستعارة بوصفها أدوات بيداغوجية: فيشبّه الخلية بـ«مركبة فضائية»، ونواة الخلية بـ«مركز قيادة»، والجينوم بـ«مكتبة»، والعدلات (خلايا الدم البيضاء الأساسية بالنسبة للاستجابة المناعية) بـ«جنود مراهقين أُرسلوا إلى المعركة».
الفكرة الرئيسية التي تتكرر عبر ثنايا الكتاب هي أن الخلية «كائنٌ حي مستقل – أو وحدة – يشكّل جزءاً من كل». والكائنات الحية، بما فيها البشر، ليسوا أكثر أو أقل من مجموع تلك الأجزاء. وهدف المؤلف هو إظهار «كيف غيّر مفهوم الخلية وفهمنا للفسيولوجيا الخلوية الطبَ والعلوم والبيولوجيا والبنية الاجتماعية والثقافة»، وما يعتقد أن مستقبل التلاعب بالخلايا سيجلبه: قطع غيار لـ«الإنسان الجديد» المذكور في عنوان الكتاب. 

  • «أغنية الخلية».. عن الخلية ومستقبل البشر

وعلى الرغم من أن قصة موخرجي ليست ذات تسلسل زمني صارم، إلا أنه يلخّص تاريخها المبكر في الجزء الأول من الكتاب، بما في ذلك اختراع المجهر أو الميكروسكوب في أواخر القرن السادس عشر وأشهر مستخدميه: روبرت هوك، مؤلف كتاب «ميكروغرافيا» (1665)، والذي منح الخلية اسمها، وأنطوني فان لوفنهوك، الذي لمح مخلوقات حية، «حيوانات مجهرية»، تحت العدسات المكبرة التي صنعها. 
ويحكي «موخرجي» بداياتِ نظرية الخلية بين علماء القرن التاسع عشر الأوروبيين الإجماع المتزايد على أن الخلية هي وحدة الحياة الأساسية في النباتات والحيوانات. ويُتبع هذا التاريخ بمزيد من القصص الخلوية المتعلقة بتدخلات طبية ويعود إلى أصول وبدايات علمية تاريخية حسب الحاجة، فيتحدث عن المضادات الحيوية، والإخصاب في المختبر، وتعديل الجينات، والأجسام المضادة وحيدة النسيلة، واللقاحات، والتحفيز العميق للدماغ، والعلاج المناعي للسرطان، وزرع نخاع العظام، وبحوث الخلايا الجذعية، إلخ. 
والحق أن موخرجي صريحٌ بشأن الإخفاقات الطبية، وخيبة الأمل الناتجة عن علاج المرضى الذين يعانون ويموتون، والمخاطر الأخلاقية التي تأتي مع الابتكار، إذ يعترف بأن الكثير من الأشياء ما زالت مجهولة في علم الخلايا. ومقتبساً من قاموس قدوته عالم الأمراض رودولف فيرتشو (1821-1902)، الذي كان يشبّه الخلية بمُواطن في مجتمع كبير، يشدّد موخرجي على حدود «المذهب الذري» وأهمية «الترابط». و«يوسّع» بيولوجيا الخلية التي قدّمها فيرتشو فيقول: «إلى جانب فهم الخلايا بشكل منفصل، سيؤدي فكُّ رموز القوانين الداخلية للمواطنة الخلوية (التسامح، التواصل، التخصص، التنوع تشكيل الحدود، والتعاون، العلاقات البيئية) إلى ولادةِ نوعٍ جديد من الطب الخلوي».
ويستخدم موخرجي استعارة مألوفة للجهاز المناعي، إذ يشبّهه بساحة معركة بيننا «نحن» و«هم» – الخلايا التي تنتمي للشخص (الذات) والميكروبات الغازية أو غيرها من «الأجانب» (اللاذات). ويشرح أن فرانك ماكفارلين دوّن إطار الذات/اللاذات الخاص بالنظام المناعي في منتصف القرن العشرين، مشيراً إلى العديد من الأمثلة لخلايا «تتعرف» على المستضدات (مواد تثير الاستجابة المناعية) وتدمّرها. 
غير أن كتاب موخرجي وعلى غرار كل الكتب، لا يخلو من نقائص وعيوب بالطبع. ومن ذلك أنه لم يشر إلى أن التكاثر البشري هو في المحصلة عبارة عن اندماج تعاوني لذوات خلوية – فالخلية المخصبة تتألف من شخصين اثنين – والجنين يُعد جزئياً أجنبياً جينياً على المرأة الحامل. ولكن الجهاز المناعي للأم لا ينبذ الجنين، وهو شيء حيّر العلماء على مدى سنوات. 
وفضلاً عن ذلك، فإن انتقال الخلايا عبر المشيمة من الجنين إلى الأم ومن الأم إلى الجنين، والذي يُعد اندماجاً آخر لذوات جسدية تعرف بـ«الخيميرية الدقيقة»، تم الاعتراف به مؤخراً باعتباره جزءاً من الحمل الطبيعي. إذ يمكن أن تبقى الخلايا الجنينية في الأم لعقود، ويسعى الباحثون حالياً لفهم الدور الذي تلعبه هذه الخلايا المهاجرة في الإنقاذ المناعي والأمراض. 

كما أغفل موخرجي حقيقة أن البشر «يستضيفون» في أجسامهم أعداداً كبيرة من الميكروبات والفيروسات «الغريبة»، التي لا يتم التسامح معها فقط ولكنها تُعد ضرورية لبقائنا. ولكن على الرغم من إغفاله لنقاشات حالية مهمة في البيولوجيا ذات جذور تعود إلى قرون مضت، إلا أن كتاب «أغنية الخلية» يظل نصاًّ حياًّ وشخصياً ومفصلاً، ومؤثراً كذلك، للخلية في التاريخ الطبي وعلاجاتها واستخداماتها الواعدة في الحاضر. ولا شك أن الزمن هو الذي سيحدّد ما إن كان إنسان «موخرجي» الجديد، الذي يصفه بأنه «مجموع جديد لأجزاء جديدة»، ينتمي إلى مستقبلنا. 

محمد وقيف

الكتاب: أغنية الخلية.. استكشاف الطب والإنسان الجديد
المؤلف: سيدهارتا موخرجي
الناشر: سكريبنر
تاريخ النشر: أكتوبر 2022


عن خدمة «واشنطن بوست لايسنيج آند سينديكيشن»