أخيراً تم الاتفاق الذي يشمل دول الاتحاد الأوروبي والدول الصناعية السبع الكبرى وأستراليا على وضع سقف 60 دولاراً لسعر برميل النفط الروسي، مع آلية تعديل لإبقاء السعر أدنى من مستوى السوق حال انخفاض الأسعار. ولن تلتزم الدول غير المشاركة في القرار به، لكن شركات الشحن والتأمين وإعادة التأمين التي تسيطر الدول متخذة القرار على حوالي 90% منها ستُمنع من التعامل مع شحنات الخام الروسي، ما لم يتم بيعها بأقل من الحد الأقصى. ومفهوم أن الغرض من القرار هو حرمان روسيا من الموارد المالية التي تمول بها عمليتها العسكرية، وكانت التقديرات قد أشارت إلى أنها قد كسبت منذ بداية الحرب 67 مليار يورو، علماً بأن ميزانيتها العسكرية السنوية تقدر بنحو 60 مليار دولار. وقد سارعت أوكرانيا إلى تأكيد أن القرار سيدمر الاقتصاد الروسي، فيما قلل آخرون من آثاره، كما سارع الكرملين إلى إعلان رفض القرار ودراسة سبل الرد عليه، مع تأكيد عدم تزويد الملتزمين به بالنفط الروسي.
وقد مثل هذا الأمر بالنسبة لي منذ بدأ التفكير فيه لغزاً، باعتباري غير متخصص في شؤون الطاقة، وقد تخيلت بتفكيري البسيط أن الدول كثيفة الاستيراد للقمح قررت في ظروف مواجهة أن تفرض سقفاً على سعر القمح الروسي أو الأميركي فكيف يستقيم هذا؟ أي كيف يستقيم أن يفرض الأكثرُ احتياجاً على مَن يزوده باحتياجاته سعراً لا يتجاوزه؟ وبطبيعة الحال فإنه لا وجه للمقارنة بين قوة الدول المستوردة للقمح وقوة الدول التي قررت فرض سقف لسعر النفط الروسي، لكن وضع روسيا كثاني أكبر مصدّر للنفط الخام في العالم بدوره وضع قوي. وعندما اتُخذ القرار وبدأت مناقشةُ تداعياته لاحظت أن طريقتي في التفكير ليست بلا أساس، فقد أشار خبراء رفيعو المستوى إلى سيناريوهات غير متفائلة بنجاح القرار، تبدأ في حدها الأدنى بأن تأثيره على روسيا سيكون محدوداً، لأسباب عديدة منها أن تكلفة إنتاج برميل النفط الروسي تتراوح بين 20 و25 دولاراً، وبالتالي فإن روسيا رابحة حتى لو طُبق القرار بصرامة، كما أن السعر محسوب في الميزانية الروسية على أساس48 دولاراً، ولذا فإن سقف الـ60 دولاراً لن يُحدث إرباكاً فيها. كذلك أُشير إلى أن السعر الحالي يتراوح بين 65 و67 دولاراً، وبالتالي فإن تأثير القرار سيكون محدوداً. ومن ناحية أخرى فإن روسيا نجحت في إيجاد أسواق بديلة في آسيا أهمها الصين والهند، مما يزيد من محدودية تأثير القرار.
أما حول منع شركات التأمين من التعامل مع شحنات النفط الروسي، فقد ذكر خبير روسي أن بلادَه تعتمد بنسبة 75%‏ على ناقلات روسية في نقل نفطها، وسوف يكون من السهل نسبياً توفير النسبة الباقية. غير أن خبيراً عالمياً مثل الدكتور ممدوح سلامة قطع بأن مصير هذا القرار سيكون سلة المهملات، لأن روسيا سترد بوقف تصدير النفط لمن يطبّق القرار، خاصةً وأن لها أسواقها البديلة، وأن نقصاً في العرض سيترتب على ذلك، وبالتالي سترتفع الأسعار بشكل كبير وسيكون الرابح الأول هو روسيا نفسها. وانتهى سلامة إلى أن الاتحاد الأوروبي قد وضع نفسه في أكبر مشكلة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وأن الولايات المتحدة هي المستفيد الأول من تحجيم الاتحاد الأوروبي.
لست في موقع يمكنني من الحكم على نتيجة هذه المباراة الجديدة لكسر العظام، خاصة أن نتيجتها سوف تتوقف على موقف أطراف أخرى كالصين والهند، كما أن موقف «أوبك» التي يُفترض أن تكون قد عقدت اجتماعاً قبل يومين سيكون مهماً بدوره، لكن المؤكد أن مجرد اتخاذ قرار التسعير يعني أن عقلية التصعيد مازالت هي السائدة، رغم تواتر الحديث مؤخراً عن احتمالات تهدئة.

*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة