ودعت الصينُ رئيسَها السابق جيانغ زيمين الذي أسس مرحلة جديدة حققت للصين مكانة دولية استثنائية، إذ تمكنت بفضل الاستراتيجية التي وضعها من إطلاق مسار جديد في التفكير السياسي والنهج الاقتصادي الصيني الذي استمر في الصعود منذ أواخر الثمانينيات.

وبفضل النهج الجديد شهد العالَمُ تحول الصين إلى مصنع كبير يغذي الأسواق بمختلف أنواع البضائع والمنتجات التي تعتمد على تلبية احتياجات المستهلكين بسلع ذات درجات متفاوتة من الجودة، لكنها تستقطب المزيد من المستهلكين من كل المستويات، ما جعل الاقتصاد الصيني يكتسب قوته التنافسية في النمو طوال السنوات الماضية، حتى في أحلك الظروف والنكسات التي أصابت الاقتصاد في العالم.

وبرحيل جيانغ زيمين قبل أيام، يمكن للمؤرخين والمهتمين بمتابعة التحولات الصينية توثيق حقائق عدة ارتبطت بشخصيته وبما تحقق في فترة رئاسته بين عامي 1993 و2003، وأهم هذه الحقائق أنه رسّخ رؤيتَه الاقتصادية والسياسية وحوّلها إلى برنامج طموح للاقتصاد والدولة الصينيين. كما نجح جيانغ زيمين في التخفيف من قبضة «الحزب الشيوعي الصيني»، وجعل مشروعَه الإصلاحي يتغلب على المعوقات التي كانت تفرضها القيادة الجماعية في الحزب، فوُلِدت القوة الاقتصادية للصين كما نراها اليوم على يديه، مما يؤكد حقيقة أن القيادات المؤثرة يمكن أن ترتقي بشعوبها وأن تحقق لها الأمجاد والمعجزات عندما تتحلّى بالحكمة والرؤية والقراءة الدقيقة للواقع وتحديات المستقبل.

تضعنا تجربة الرئيس الصيني السابق كذلك أمام حقيقة أخرى، مفادها أن الأثر الذي تصنعه الزعامة القادرة على تحطيم الجدران الصلبة للأيديولوجيا، يعد من الدروس الملهمة التي تركها جيانغ زيمين، وبدون الخطوات التي أطلقها في الاقتصاد والصناعة، لم تكن الصين قادرة على تجاوز عبء كثافتها السكانية وتحويلها إلى قوة إنتاج وإلى مصدر إثراء للنهوض الاقتصادي.

ولم يكن بوسع المحللين، حتى أواخر ثمانينيات القرن الماضي، أن يتوقعوا وصول الصين إلى مرتبة اقتصادية تمكّنها من منافسة القوى الغربية التي فرضت نفسَها بقوة العِلم والتصنيع وتقدم التكنولوجيا، إلى أن بدأت مرحلة الإصلاح الاقتصادي في الصين، والتي يعد جيانغ زيمين مهندسَها والمحرك الذي قاد مراحل مفصلية نقلت الصين بالتدريج إلى مرحلة جديدة من الحضور في المشهد الاقتصادي العالمي.

وفي مسيرة جيانغ زيمين ما يشير إلى أن المنافسين له كانوا يعتبرونه في بداية صعوده مجرد موظف بيروقراطي، وهو في الأصل مهندس كهربائي عمل في مصنع للغذاء وفي مصنع للسيارات، ثم وصل إلى منصب الوزير المسؤول عن قطاع الصناعات الإلكترونية، ومع اندلاع ما عرف باحتجاجات ميدان «تيانانمن» عام 1989 برز دورُه أكثر عندما اختار الانحياز إلى الإصلاحات الاقتصادية التي قللت من سيطرة نمط الاقتصاد الاشتراكي لصالح نمط من الرأسمالية يبقى فيها للدولة حضور استراتيجي.

وبالتوازي مع إدارته للتناقضات السياسية، قام بدوره في قيادة الانفتاح الاقتصادي للصين على العالَم، من خلال زيارات خارجية إلى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. وشهد عهده إعادة بريطانيا هونغ كونغ إلى الحكم الصيني في عام 1997.

كما نجح في ضم الصين إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001، وهي الخطوة التي مكّنته من ربط اقتصاد بلاده بالاقتصاد العالمي، فأصبح جيانغ زيمين من الناحية العملية المؤسس الأبرز للتحول الصيني الذي جعل المحللين يتحدثون عن التنين الاقتصادي القادم بقوة والمساهم بفاعلية في تغيير موازين قوى العالم.

*كاتب إماراتي