في أبوظبي نظمت جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية الأسبوع الماضي ندوةً متميزة حول موضوع «الأخلاق والفلسفة»، بحضور عدد كبير من الباحثين والأساتذة في الدراسات الفلسفية.

ولم يكن هذا الاختيار اعتباطياً، بل إن موضوع الأخلاق في أبعاده الفلسفية الجوهرية هو من مرتكزات المشروع الحضاري الإماراتي الرائد الذي تجسده جامعة محمد بن زايد في مجالات العلوم الإنسانية. ما نعنيه بالأخلاق هو الثلاثية التي تحدث عنها الفيلسوف «بول ريكور»: «الاتيقا» التي تُعنى بمبحث الفضيلة، والأخلاق بمفهوم القانون والواجب الكلي، والعدالة التي تجسدها النظم المؤسسية العمومية.

في المستوى الأول، نتحدث عن الأخلاق من حيث هي رؤية للعالَم تؤسس لمعايير الفضيلة والخير، أي ما عبّر عنه الفلاسفة اليونان بالحياة الطيبة، بمعنى ما يتعلق بمقاصد وغايات العيش العليا والقيم الكونية الكبرى المؤطرة للسلوك البشري. ومع أن هذا التصور الذي كان مهيمناً على الفلسفات الأخلاقية القديمة والوسيطة قد تم التراجع عنه نوعياً في عصور الحداثة، باعتباره لا يتناسب مع واقع التعددية الفكرية والقيمية الذي يسم المجتمعات المعاصرة («حرب الآلهة» حسب عبارة ماكس فيبر)، إلا أن الاهتمام بهذا التصور عاد مجدداً، باعتبار أنه يستحيل الفصل عملياً بين الجوانب الغائية في المسألة الأخلاقية وقواعدها الإجرائية الكونية.

الفضائل من هذا المنظور هي التقويمات الجوهرية التي تعتمدها أمة من الأمم أو ثقافة من الثقافات من داخل نسيجها العقدي والمعياري لتوجيه الإرادة البشرية الحرة نحو الخير. ولقد تبنت الإمارات بقوة في السنوات الأخيرة هذا النهج في تقديم رؤية حضارية إسلامية تستوعب قيم التسامح والسلم والأخوّة الإنسانية بما يشكل مادة مرجعية ثرية لفلسفة أخلاق عليا هي التي تشكل محور اهتمام الدراسات الإنسانية في جامعة محمد بن زايد الفتية. أما الجانب الثاني من الأخلاق، فهو الذي يخص قانون الواجب العقلي القطعي الذي تحدث عنه الفيلسوف الألماني كانط في نقده للعقل العملي. الأخلاق هنا تنبع من الضمير الذاتي وليس من القيم المجتمعية، والمقياس فيها هو قابلية الأحكام المعيارية لتكون قاعدةً لتشريع سلوكي جماعي، والمحدِّد فيها ليس قوانين الطبيعة، بل قوانين الحرية.

ومع أن كانط اتجه إلى بناء فلسفته الأخلاقية على أساس العقل الكوني دون الرجوع إلى مقاييس الدين والمجتمع، إلا أنه بين في كتابه «الدين في حدود مجرد العقل» أن توجيه الإرادة الحرة نحو فعل الخير يحتاج إلى المرجعية المطلقة العليا بما يتمثل عملياً في ترجمة المضامين القيمية العقدية للنص المنزل في لغة العقل العمومي المشترك. إن هذا التصور هو ما يؤسس لمقاربة منهجية كبرى تعتمدها جامعة محمد بن زايد في نظرتها العقلانية الإنسانية للتراث الإسلامي بتنقيته من القراءات المتعصبة والمؤدلجة لتوجيه النظر إلى جوانب الانفتاح والتسامح فيه، والتي تلتقي مع المشترك الإنساني الكوني.

أما الجانب الثالث فلا يتعلق بالأخلاق كقيمة وجودية وكونية ولا بالسلوك الأخلاقي في ذاته، وإنما بالنظم الاجتماعية العمومية الضامنة للعدالة في مجتمع منظم ومتماسك من أفراد أحرار متساوين ومتضامنين.

ومن الجلي أن قيم الخير وقوانين السلوك الأخلاقي لا يمكنها لوحدها ضمان العدل بين البشر، ولذا كانت الحاجة إلى ما سمّاه بول ريكور «الوساطة غير الكاملة للمؤسسات»، وهو يعني حاجة كل المجتمعات إلى مؤسسات منظمة تضمن الحقوق الكاملة لأفرادها، حتى ولو كانت العدالة المطلقة لا تُنال في عالم البشر.

المعيار في العدالة ليس الخير في ذاته، وإنما الحقوق المتساوية للمواطنين التي تصونها الدولةُ من حيث كونها لا تتدخل في وعي أو ضمير أفرادها، وإنما تضع الشروطَ والقواعدَ الضروريةَ للتفاعل الاجتماعي المتوازن والعادل، مع مراعاة واجبات التضامن الاجتماعي. لم تعد الدولة بمفهومها المعاصر تسعى إلى تكريس الفضيلة والخير بحسب تصورات دعاة «المدن الفاضلة» (أفلاطون والفارابي)، وإنما تكتفي حسب عبارة الفيلسوف الأميركي جون رولز بضمان العدل بمفهومه الصوري الإجرائي.

ومن هذا المنظور، لا شك في أن الإمارات تشكل اليوم نموذجاً لدولة المواطنة الحديثة، بنظمها المؤسسية العمومية القوية المرتكزة على معايير القانون وسياسات التضامن والرعاية الاجتماعية. ومما يجدر الانتباه إليه اعتماد الدولة مفهوم «السعادة» محدِّداً من محددات السياسات العمومية، وهو مفهوم فلسفي عميق يعني بلوغ أبعد درجات الرفاهية والاكتمال في ما وراء الحقوق المألوفة للمواطَنة.

سياسات المواطَنة والتضامن هي أيضاً من مرتكزات الرؤية الحضارية لجامعة محمد بن زايد في فلسفتها الأخلاقية التي شكلت ندوة أبوظبي محطة أساسية من محطات التعبير عنها.

*أكاديمي موريتاني