في بداية العملية العسكرية الروسية، عُقِدت بعض جلسات للتفاوض المباشر بين الجانبين الروسي والأوكراني، وتم ذلك أحياناً بوساطة تركية، وكان انعقاد هذه الجلسات في حد ذاته مؤشراً إيجابياً، إذ لا يمكن تفسيره إلا بالرغبة المشتركة في التوصل لتسوية أياً كانت صعوبة التوصل إليها. وكان مما دعا للتفاؤل آنذاك إدلاء الرئيس الأوكراني بتصريحات فُهِم منها أنه لم يعد متمسكاً بهدف الانضمام لحلف «الناتو»، باعتباره لم يعد هدفاً عملياً. غير أن المفاوضات توقفت لاحقاً، واقتصرت على مفاوضات تبادل الأسرى. وكان الاتهام الروسي الدائم للقيادة الأوكرانية أنها ألعوبة بيد الولايات المتحدة، تستخدمها لاستنزاف روسيا. ثم عاد حديث التسوية يتردد على نحو غير مباشر في الآونة الأخيرة، فمن ناحية لوحظ أن تواتر الاتصالات الأميركية الروسية قد ازداد عن ذي قبل. صحيح أنها قد تكون ذات صلة أساساً بدواعي الحرص على ضبط تصاعد الحرب، وبالذات بعد التلميحات المتعلقة باحتمال اللجوء للسلاح النووي، ومن ناحية ثانية تسربت تقارير عن نصائح أميركية لأوكرانيا بإبداء بعض المرونة في موقفها من الانخراط في مفاوضات مع روسيا. وقد اختُلِف في تفسير هذا السلوك الأميركي، بفرض صحته. وأغلب الظن أن شيئاً من ذلك القبيل قد حدث بالفعل، بدليل ما طرأ من تغير على السلوك الأوكراني، مما قيل إنه يعكس رغبة أميركية حقيقية في تجربة خيار التسوية بعد أن أصبحت تكلفة دعم أوكرانيا عبئاً ثقيلًا على الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين. وقيل من ناحية أخرى، إن الهدف هو تسهيل استمرار الدعم باهظ التكلفة لأوكرانيا، بعد أن أصبح التململ واضحاً في صفوف الرأي العام في أوروبا والولايات المتحدة بسبب موجات التضخم غير المسبوقة. وقد أدى هذا التململ إلى سقوط حكومات أوروبية كما في السويد وإيطاليا وبريطانيا، واهتزاز أخرى، كما في ألمانيا وفرنسا وإسبانيا. ثم جاءت التصريحات الأخيرة لرئيس الأركان الأميركي، والتي أشارت إلى أن الحرب لا يمكن أن تنتهي إلا بالتفاوض، لتضيف مؤشراً جديداً على عودة الحديث عن التسوية، ويُلاحظ أن مصادر أوكرانية في أعقاب هذه التسريبات ألمحت إلى إمكانية إجراء محادثات مع روسيا، رغم أن هذه الأخيرة حافظت دائماً على موقفها المتمثل في استعدادها للتفاوض دون شروط مسبقة.
والواقع أن العامل الأكثر أهميةً في عودة الحديث عن التفاوض والتسوية هو التطورات التي طرأت في ميادين القتال. ففي البداية، ساد تصور النهاية السريعة للحرب لصالح روسيا، بسبب الخلل الفادح في ميزان القوة لصالحها. غير أن الاصطفاف الغربي بقيادة أميركية ومشاركة أوروبية واضحة والدعم الهائل لأوكرانيا بالسلاح والمرتزقة، ناهيك بخدمات التدريب وتقديم المعلومات الدقيقة عن القوات الروسية بفضل الأقمار الاصطناعية.. كل هذا أدى لتحسن ملحوظ في الوضع القتالي لأوكرانيا تمثل في تحرير بعض الأراضي التي كانت روسيا قد سيطرت عليها، وفي شن هجمات مضادة على القوات الروسية، تم صدها وتكبيد القوات الأوكرانية خسائر فادحة، إلا أن القوات الروسية لم تستطع وقفَها ولا وقف القصف الأوكراني لأهداف مدنية في أراضٍ يُفترض أنها أصبحت روسية، فضلاً عن نجاح عدد من الأعمال التخريبية ضد أهداف روسية والانسحاب الأخير من خيرسون.. وهذا التطور باتجاه تحسين ميزان القوى من وجهة النظر الأوكرانية يخلق ظروفاً مؤاتية لمرونة روسية محتملة. غير أن التعارض مازال تاماً بين أهداف الطرفين، وتنازل أي منهما عن أهدافه الأساسية مدمر سياسياً لمكانته واستقراره، وهذه معضلة حقيقية تحتاج نقاشاً مستفيضاً.
 
*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة