بعد عملية اختيار موفقة، حصلت بريطانيا على ثالث رئيس وزراء في ظرف شهرين: إنه وزير المالية السابق ريشي سوناك. ولا شك أن هذا الأخير مناسب لفترة تطغى عليها العواصف الاقتصادية: فسوناك، خريج مؤسسة «غولدمان ساكس» وبضعة صناديق تحوط، يفهم الواقع المالي فهماً يتباين مع الفهم الهشّ لسلفه. ولكن وعلى غرار زعماء بلدان غنية آخرين، سيتعين عليه إقناع البريطانيين بحقائق مرة، ومن ذلك أن زمن التحفيز ولّى، وأن الطريق إلى النمو يكمن في التقنين الذكي. 
من مرحلة ما بعد أزمة 2008 المالية إلى العام الماضي، هيمنت على نقاشات السياسة الاقتصادية حقيقةٌ مركزيةٌ واحدةٌ، ألا وهي حقيقة أن التضخم كان منخفضا، فكان على الحكومات زيادة الإنفاق. إذ عمدت البنوك المركزية عبر العالم الغني إلى طباعة الأموال، وقام السياسيون بإنفاقها. ولكن اليوم، ومع تجاوز التضخم للهدف بشكل كبير جداً، عُكس المنطق الماكرو اقتصادي. إذ ترفع البنوك المركزية المعدلات، والسياسيون الذين يرفضون إخضاع الميزانية للانضباط يستدعون غضب الأسواق. 
في بريطانيا، تطّلب هذا المنطق عكس خفض الضرائب الكارثي الذي أطاح بسلف سوناك. وإذا كان هذا الأخير حصيفاً، فإنه سيغيّر رأيه تغييراً جذرياً ويعلن عن زيادة في الضرائب، بما في ذلك ضرائب جديدة على شركات الطاقة التي تحقق أرباحاً كبيرة جداً وغير متوقعة. ولا شك أن العائدات الإضافية ستمنحه بعض الحرية لتجنب كبحٍ للخدمات العامة لا يمكن تحمّله سياسياً: والجدير بالذكر هنا أن قوائم الانتظار في نظام الخدمات الصحية الوطنية الـ«إن إتش إس» بلغت مستويات قياسية من حيث طولها. كما أن هذه الزيادات الضريبية يمكن أن تساعد على علاج نقطة ضعف سوناك الأبرز. ذلك أنه غني يتنقل بواسطة طائرة الهليكوبتر، وينبغي عليه أن يُظهر أنه يفهم احتياجات الناخبين العاديين. 
ولكن زيادات الضرائب وانضباط الماكرو اقتصادي لن يكونا كافيين. ولإقناع المستثمرين والناخبين بالإيمان ببريطانيا ما بعد «بريكسيت»، يحتاج سوناك إلى أجندة نمو. ونظرا لأن خفض الضرائب باهظ وغير متاح، يجب أن تشتمل تلك الأجندة على إصلاح للتقنين. ويجب على سوناك أن يكون شجاعاً بخصوص الاستراتيجية المايكرو اقتصادية بنفس مقدار شجاعته بخصوص الاستراتيجية الماكرو اقتصادية. 

الخبر السار هو أن هناك الكثير الذي يمكن فعله في مجال التقنين. وخلافاً للأسطورة التي مفادها أن الاقتصادات الأنجلوسكسونية تعاني من بعض الفوضى وغياب التقنين، فإن بريطانيا تعجّ بالقواعد والقيود في الحقيقة، وهذا أحد أسباب انخفاض نمو الإنتاجية البريطانية من المراتب الأولى لمجموعة البلدان السبعة إلى مراتبها المتدنية. كما أن المشاكل المرتبطة بالبيروقراطية كثيرة ومتعددة. غير أنه من بين كل القيود المزعجة المناوئة للنمو، يظل مصدر القلق الأول هو قطاع البناء. 
فعبر الاتحاد الأوروبي لدى كل بلد من البلدان الأعضاء في المتوسط 500 مسكن لكل 1000 نسمة من السكان. وعلى سبيل المقارنة، لدى فرنسا وإيطاليا 600 مسكن تقريبا. هذا في حين تمتلك بريطانيا أقل من 450 مسكناً بسبب ترسانة من القوانين المبالغ فيها. فبريطانيا ليست فقط واحدا من بلدان «ليس في فنائي الخلفي» (كناية على معارضة السكان لمشاريع التطوير العقاري مقترحة في أحيائهم)، وإنما بلد من بلدان «لا تبنِ أي شيء في أي مكان بالقرب من أي شيء»، مثلما تأسفت لذلك مؤخرا مجلة «ذي إيكونوميست». 
وتزداد المشكلة حدة في المدن، وخاصة الأماكن التي يمكن أن تخلق نموا اقتصاديا إضافيا لو تسنى لعدد أكثر من الناس الانتقال للعيش هناك. ذلك أن كل مدينة كبيرة في بريطانيا محاطة بـ«حزام أخضر»– منطقة ليست خضراء بالضرورة ولكن البناء عليها مقيد بصرامة. والحزام المحيط بلندن يعادل ثلاثة أضعاف مساحة العاصمة نفسها. وفي إنجلترا بشكل عام، يُعد نحو ثُمن كل الأراضي مناطق يحظر فيها البناء. 
والنتيجة هي أن ارتفاع أسعار المنازل في المدن بات الشغل الشاغل للطبقة المتوسطة. في أوائل التسعينيات، حين كنتُ مراسلا صحافياً في العشرينيات من عمري، كانت رحلتي من شقتي المتكونة من غرفتين وصالة إلى المكتب في لندن تستغرق أقل من 30 دقيقة. أما اليوم، فإن ابنة أخي المهنية والتي تبلغ سنا مماثلة لا يمكنها أن تحلم بشراء أي شيء من ذاك القبيل.
والواقع أنه حتى قبل أن ترغم مخاطر كوفيد الناس على العمل عن بعد، أدّت أوقات التنقل الطويلة من لندن وإليها إلى فراغ فضاءات العمل على نحو يصيب بالإحباط. وقبل بضع سنوات، قبلتُ بسرور منصباً كزميل زائر قي كلية لندن للاقتصاد؛ ولكن سرعان ما تخليت عن ذاك العمل لأن لا أحد آخر كان يحضر. 
على أن قواعد البناء التقليدية في بريطانيا تتجاوز السكن. فاللافت أيضاً أن لا خزّانات ولا محطات للطاقة النووية بُنيت منذ تسعينيات القرن الماضي. كما أن مشاريع الطرق والسكك الحديدية أندر بكثير من الحياة البرية التي باسمها تصدر قرارات المنع. وعلى سبيل المثال، فإن «ليدز»، مدينة يفوق عدد سكانها 70 ألف نسمة، وُعدت بنظام نقل جماعي في سنة 1993. واليوم ما زالت المدينة تفتقر إلى هذا النظام. 
وخلاصة القول إن معالجة هذه الفوضى مهمة ليست لأصحاب القلوب الضعيفة. ولكن سوناك، وعلى الرغم من مؤهلاته الاقتصادية، كان من أنصار «بريكسيت»، ربما لأنه كان يأمل أن يحرر الانسحاب من الاتحاد بريطانيا من القيود للسعي وراء تقنين ذكي. وقد بات باستطاعته الآن أن يُثبت أنه كان محقاً بشأن ذلك.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»