بحكم انتمائي لجيل الإذاعة، كان من الطبيعي أن أجزع وأتأثر لتوقّف بث القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية، رغم أني لم أعد أواظب على الاستماع إليه منذ أمد بعيد. اكتشفت إذاعة لندن منذ سنوات الصبا، وشكلتْ بالنسبة لي مصدراً رئيسياً للثقافة والإطلاع، في مرحلة لم يكن العصر الذهبي للتلفزيون قد بدأ ولم تكن الصحفُ واسعةُ الانتشار والتأثير متوفرة في بلادي. كان الوعي السياسي لأبناء جيلي في المغرب العربي يتشكل إما من «صوت العرب» التي لم أدرك سنواتِ مجدها في العهد الناصري، أو «صوت لندن» التي كانت تبدو لنا أكثر مهنيةً وموضوعيةً.

والمعروف أن القسم العربي لإذاعة لندن بدأ البث مع السنوات الأولى للحرب العالمية الثانية، وواكب مساراتِ التحول الكبرى في العالم العربي، من حرب السويس عام 1956 إلى حربي 1967 و1973، وكانت آخر محطات العصر الذهبي لهذه الإذاعة حرب تحرير الكويت عام 1991 التي تلتها بعد فترة قصيرة الطفرة التلفزية الفضائية العربية.

جيل الإذاعة هو جيل الأيديولوجيات العضوية والمثقف الملتزم، وعصر الإذاعة هو عصر عنفوان الدولة الوطنية التي كانت تتحكم في الموجات والذبذبات العامة لإبلاغ رسائلها للجمهور والتحكم في متخيَّله الجماعي.

في كتابه الذي صدر العام الماضي بعنوان «تاريخ وسائل الإعلام»، يبين المفكر الفرنسي «جاك أتالي» الأهميةَ الخاصة للإذاعة في أنظمة الاتصال التي بدأت قبل آلاف السنوات من ثلاثية «الحصان والعربة والكتابة» في بلاد الرافدين، ثم الورقة والمطبعة في الصين، قبل أن تنشأ بوادر الصحافة المكتوبة في منتصف القرن السادس عشر في مدينة فينسيا الإيطالية ثم في فرانكفورت بألمانيا ولندن ببريطانيا.

بدأت الإذاعة في الولايات المتحدة الأميركية في العشرينيات، انطلاقاً من كاليفورنيا، وإن كانت في بدايتها قد ركزت على الموسيقى والمسرح والمواد التعليمية، دون أن تكون وظيفتها الإخبارية بارزة. ولم يتأخر نفاذ الإذاعة إلى أوروبا وبصفة خاصة بريطانيا وألمانيا وفرنسا وروسيا الشيوعية.

وفي حين نشأت الإذاعاتُ خاصةً ومستقلةً في الولايات المتحدة، فقد ظلت لعصور طويلة عموميةً وتابعةً للدولة في أوروبا. ويبين أتالي كيف بدأ عصر الإذاعة الإخبارية في الغرب بعد أزمة 1929، وكيف أصبحت الإذاعة أداة حاسمة في الحقل السياسي. وكان الرئيس الأميركي روزفلت أول من استخدم هذا النمط الجديد من الإعلام في مخاطبة الجمهور بدايةً من عام 1932.

بلغت الإذاعةُ أوجهَا في الحرب العالمية الثانية وما بعدها، وشكلت أداةً فعالةً ومؤثرة في العالم الثالث بصفتها، بلغة الفيلسوف «لويس التوسير»، واحداً رئيسياً من «الأجهزة الأيديولوجية للدولة».

وفي بداية الثلاثينيات بدأ عصر الصورة المرئية دون الانفصام كلياً مع السينما، قبل أن يستقل التلفزيون في الخمسينيات، وإن ظل خاضعاً لتحكّم السلطة العمومية في أغلب بلدان العالم، بما فيها الديمقراطيات الليبرالية العريقة.

ومع أن بعض الكتاب أشاروا منذ منتصف القرن الماضي إلى مخاطر «الصورة المتحركة» على الوعي الجماعي بالانتقال من نموذج الأيديولوجيا (الفكرة) إلى نموذج الإيمالوجيا (الصورة)، حسب عبارة الكاتب التشيكي كونديرا، فإن الجدل حول سيلان المعلومة المصورة لم يظهر بقوة إلا في عصر الإعلام الرقمي والتواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة.

وإذا كانت كل منظومة إعلامية هي حصيلة اقتران حوامل نقل الخبر وحوامل التمثل الجماعي، وفق أطروحة «رجيس دوبريه» في مبحثه التأسيسي لعلم الميديولوجيا، فإنما يحدث راهناً مع نهاية عصر الإذاعة بمفهومها التقليدي هو نهاية الخبر ذاته بما يقوم عليه من مسافة إنتاج وتصور واستدلال.

كان عصر الإذاعة هو عصر المثقف الملتزم الذي يصوغ الوعي ويقدم المادة الفكرية ذات التأثير الجماعي، وكان عصر الأمة التي هي كيان جماعي يتقاسم نفس الكلمات والأصوات والرموز. في العصر الرقمي الراهن، كما يرى دوبريه، يعوض الحدثُ الفكرةَ، ويعوض اللحظي السريعُ حركةَ التاريخ البطيئة، وتأخذ الإحساساتُ الانطباعيةُ مكانَ القيم المتقاسمة المشتركة.

المثقف أصبح هو المدون الذي يقدم شهادته الفردية الخاصة، ولم يعد المفكر الذي يستخدم أدوات النقد والتحليل والتصور للتفكير في الشأن العمومي وصناعة الحدث وتوجيه المستقبل.

لم يكن إذن توقف بث إذاعة لندن حدثاً عابراً ولا شكلياً، بل هو مظهر لتحول نوعي في حقل التواصل العمومي العربي الذي لم يعد الإعلامُ السمعي فيه مؤثراً ولا حاسماً في صياغة الوعي وتوجيه الرأي والفكر.

*أكاديمي موريتاني