لابد أن نطرح على أنفسنا جميعاً ذلك السؤالَ المهمَّ، الطويلَ والعريض، حول الهدف من التعليم بعد مرور أكثر من خمسين عاماً على التأسيس؟ 
وأبادر هنا بالإجابة على هذا السؤال بالعودة إلى بعض التجارب الأجنبية، وأبدأ باليابان التي أعلن إمبراطورُها في بداية تسعينيات القرن الماضي أن المجتمعَ الياباني قد تخلّص من أمية الكتابة والقراءة بنسبة 100%، وعقّب على ذلك قائلاً إنه إنْ وُجِد فردٌ ياباني أميٌ في المجتمع فإنه سيكون شخصاً قد عاش في غابة بعيدة لم تصل إليه يد الدولة بعد. ثم أعلن عن الهدف التالي للتعليم في اليابان، ألا وهو محو أمية الكومبيوتر لدى كل أفراد الشعب الياباني. وقد استغرق تحقيق الهدف الأول قرابة نصف قرن، أما الثاني فما زلنا بانتظار الإعلان عنه وقد مرت عليه ثلاثة عقود. 
ومن اليابان إلى سنغافورة في عهد «لي كوان يو» الذي حكمها ثلاثةَ عقود بسند من التعليم وليس بغيره. كان الهدف الأكبر بالنسبة لـ«يو» هو إعادة تربية المجتمع على أسس جديدة بعد أن غرق لعقود في مستنقع الجريمة. جمع «لي كوان» كلَّ المعلمين على مستوى البلاد في مؤتمر ضخم، وعرض عليهم كافة تحديات المجتمع الجديد، وعلى رأسها الفساد بكل أشكاله، وطلب منهم أن يتولوا زمام عملية إصلاح ذلك الفساد المتأصل، مقابل أن يصبحوا أرقي شريحة مجتمعية في البلاد، على الصعيدين المعنوي والمادية، وأن يتولى هو فقط إدارة شؤون الحكم والسياسة! وقد استطاعت سنغافورة تحقيق هذا الهدف. وبعد رحيل الزعيم «يو» تحقق هدف آخر، ألا وهو فوز سنغافورة بالمرتبة الأولى على كافة دول العالم في مادة الرياضيات. والعبرة في هذا المثل أن الغرسَ الحسنَ نتاجُه أحسنُ ولو بعد حين. 
وأشعلت روسيا جذوةَ المنافسة مع أميركا في مجال الرياضيات عندما صعد رواد الفضاء الروس إلى سطح القمر في الستينيات، وبذلك غرست دبوسَ الرياضيات في ثقب التعليم بأميركا، فماذا فعلت الأخيرة لاستدراك هذا الشرخ العلمي؟ لقد دقت جرسَ الإنذار في مناهج التعليم التي لم تساعدها على الصعود أولاً، لكن خلال خمس سنوات فقط استطاعت أميركا الهبوط على سطح القمر، وذلك بفضل إصلاح مناهج الرياضيات في التعليم، حيث تحقق الهدف المستدام.
الآن أعود إلى مجتمعي الذي يهمني أمرُ التعليم فيه، وأتساءل: ماذا فعلت وزارةُ التربية والتعليم خلال خمسين سنة الماضية؟ وماذا ستفعل خلال النصف الثاني من مئوية الدولة لترسيخ دعائم الرياضيات وتعزيز مكانة اللغة العربية التي أصبحت تشكوا من ضغوط اللغات الأجنبية عليها؟ لقد درستُ في بريطانيا وعلَّمني مشرفي بأنه لا ينبغي للإنسان أن يتقن لغةَ الآخرين وفي الوقت ذاته لا يجيدَ لغتَه الأم.. إنها نصيحة أجنبي لعربي، فما هي أجندة منظومتنا التعليمية لتحقيق هذا الهدف الشريف ولو بعد خمسين عاماً من الآن؟


*كاتب إماراتي