يستبعد الجميع، دون استثناء، قيام روسيا باستخدام السلاح النووي أو الكيميائي التكتيكي، حتى أن معظم أجهزة الاستخبارات التابعة لدول متورطة في الحرب الروسية الأوكرانية، بشكل مباشر أو غير مباشر، لا ترى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد يلجأ إلى هذا الخيار المدمر، إلا في اللحظات الأخيرة العمياء، التي تصبح فيها هزيمة الروس محققة، أو يتبين أن أحداً آخر، يعدّ العدة أو الخطط لاستخدام سلاح نووي أو كيميائي.
يراهن هؤلاء، على أن روسيا، ما زالت تحسب حساباً للمجتمع الدولي، وكذلك للأمم المتحدة، كما يراهنون على انتشار الحديث في روسيا عن معارضة الحرب ومعارضة استخدام أسلحة تكتيكية، ولكنّ أياً منهم لا يراهن على أن روسيا تفعل ذلك خوفاً من ردود فعل عنيفة من الولايات المتحدة أو من الدول الأوروبية، ولم يتحدث أحد عن أن روسيا قد لا تفعل ذلك مطلقاً خوفاً على المدنيين الأبرياء، في مناطق النزاع.
الظاهر، أن الولايات المتحدة، وبعد أن أعلنت أنها ستقوم بتزويد أوكرانيا بصواريخ بالستية بعيدة المدى، وبعد رد الفعل الروسي الصادم الصارم، بأن ذلك سيشكل التورط المباشر للولايات المتحدة في الحرب، فتراجعت الولايات المتحدة فوراً وأبقت على خططها بتزويد كييف منظومتي صواريخ «ناسامز» المضادة للطائرات التي طورتها النرويج، وهو نظام دفاع صاروخي «أرض جو» من متوسط إلى طويل المدى، وهي المنظومة التي تستخدمها الولايات المتحدة أيضاً لحماية المجال الجوي حول البيت الأبيض ومبنى الكابيتول «الكونغرس» في واشنطن. وكانت أوكرانيا قد طلبت من الولايات المتحدة الأميركية هذه المنظومة، نظراً لأن الأسلحة الروسية يمكنها إصابة أهداف على بعد أكثر من 100 ميل.
التراجع الأميركي المباشر، الذي جاء بعد «صواريخ سياسية روسية بعيدة المدى»، على لسان المتحدثة باسم الخارجية الروسية «ماريا زاخاروفا»، حيث حذرت واشنطن من أن إمداد أوكرانيا بالصواريخ طويلة المدى هو «خط أحمر»، فأصابت تلك الصواريخ هدفها، وجعلت مسؤولي وزارة الدفاع الأميركية يهرعون إلى تقديم النصح للإدارة الأميركية بعدم إمداد أوكرانيا بأنظمة الصواريخ التكتيكية للجيش التي تسمى (ATACM) طويلة المدى، بل وأعربوا عن مخاوفهم من إمكانية استخدام الصواريخ ضد أهداف داخل الأراضي الروسية، ما قد يؤدي إلى اندلاع حرب أوسع مع روسيا.
الحركة الروسية السريعة، تجاه الضغط الأميركي، دفعت بأجهزة الاستخبارات الأميركية تتوقع أن يكون هناك رد فعل روسي، في إطار ضيق أو متوسط، لاستخدام أسلحة نووية أو كيميائية تكتيكية قريباً، ومع تراجع الولايات المتحدة عن إرسال الصواريخ الباليستية طويلة المدى، إلا أن هاجس الخوف الذي ظهر في البيت الأبيض، حين صرح الرئيس الأميركي هذا الأسبوع: «إن استخدام الأسلحة النووية أو الكيميائية التكتيكية سيغير وجه الحرب بصورة لم تحدث منذ الحرب العالمية الثانية، وإن رد واشنطن على ذلك سيتوقف على حجم الاستخدام»، قد أصبح قلقاً وخوفاً مشتركاً، لكل من راهن على أن روسيا لن تستخدم أبداً تلك الأسلحة.
في المقابل، فإن الاتفاق الروسي الصيني الأخير، خلال قمة «منظمة شنغهاي للتعاون»، والإعلان المشترك عن رفض الهيمنة الأميركية، كذلك الإعلان السابق بين روسيا والصين عن «صداقة بلا حدود»، ما زال يقوي الجانب الروسي، ويدعم توجهاته وقراراته، ويجعله أكثر هدوء واتزاناً، حتى على وقع ما يسمى بالهزائم الأخيرة والتقدم الأوكراني، حيث يبدو للعسكريين، أنه مجرد انسحاب تكتيكي مخطط، وليست هزيمة بالمعنى الحرفي للكلمة، فالقوة العسكرية الروسية التي كانت قبل أقل من شهرين على أعتاب كييف، وتوقع الجميع سقوط العاصمة، لا يمكنها بحساب موازين القوى، أن تهزم بهذه البساطة، حتى لو كان جزءاً من ذلك صحيح.
يفهم البعض، من هذه التحليلات، وحسب ما يرد من تعليقات أحياناً، أنها داعمة ومشجعة للجانب الروسي للاستمرار في الحرب، وهذا غير صحيح بالمرة، فما زال التعاطف مع الجانب الأوكراني قائماً، خاصة مع الذين تعرضوا للموت والتهجير من بيوتهم وحياتهم. ويبقى الرأي في نطاق التحليل العسكري الاستراتيجي، مع الرأي الذي لم يتغير من بداية الحرب ولغاية الآن، أن الولايات المتحدة قد جرجرت أوكرانيا وأوروبا إلى هذه الحرب لاستنزاف الجميع، وأنه بيد الولايات المتحدة أن تنهيها اليوم، بالجلوس مع الجانب الروسي والتعهد بابتعاد «الناتو» عن الحدود الروسية، فهل ستفعل الولايات المتحدة ذلك؟
وجهة نظري أن الولايات المتحدة لا تريد انتهاء هذه الحرب قريباً، فهم جميعاً (روسيا والصين وغيرها) يحاولون تحويل العالم إلى عالم متعدد الأقطاب، لكن هذه الحرب وحدها، هي التي ستخرج منها الولايات المتحدة سالمة قوية، وتُبقي على عالم أحادي القطب، تحت جناحها.

* لواء ركن طيار متقاعد