تلتزم الولايات المتحدة، كدولة، بعقيدةِ رأسمالية السوق الحرة. لكن هذا يناقض إرث المساواة بين البشر والمساواة الاقتصادية في الفكر السياسي الأميركي. ومن بين أقدم وأقوى سلالات التفكير الأميركي حول الديمقراطية الاعتقاد بأن الحكومة الحرة لا يمكن أن توجد جنباً إلى جنب مع التفاوتات الهائلة في الثروة والمكانة! لقد أشرتُ إلى هذه الفكرة الأسبوع الماضي عندما كتبتُ أن معارضي الديمقراطية اليوم مدفوعون بمعارضة «التوزيع الأكثر إنصافاً للثروة والمكانة، وهو الأمر الذي يمكن للديمقراطية القوية فقط أن تجعله ممكناً».
وكما يشير المؤرخ، دانيال آر ماندل، في كتابه «التقليد المفقود للمساواة الاقتصادية في أميركا (1600-1870)»، فقد كانت هناك نسخ من هذا الاعتقاد حول الحكم الذاتي والمساواة الاقتصادية المتداولة في نيو إنجلاند في وقت مبكر من القرن الـ17. لكنها بدأت تؤتي ثمارَها مع حركة الاستقلال الأنجلوأميركية في منتصف القرن الـ18. وجد «ماندل» عدداً من الأصوات التي عبّرت عن وجهة النظر هذه أثناء الثورة الأميركية وبعدها.
كتب وزير من ولاية نيو جيرسي (مرتبط بالكنيسة المشيخية) في عام 1780: «للحفاظ على حرية الانتخابات، يجب أن تكون هناك مساواة بين سكان الأرض قدر الإمكان». وفي عام 1784، قدم مستوطنون في ولاية كنتاكي التماساً إلى الكونجرس الكونفدرالي من أجل إقامة دولة، وأكدوا أن «من الحقائق المعروفة جيداً أن ثروات وقوة دولة حرة لا تتكون من ملكية تُمنح لعدد قليل من الأفراد، ولكن من توزيعها بشكل عام، ومن ترويجها للصناعة والسكان والاقتصاد وحتى الأخلاق».
وبصفتهم «جمهوريين» متحمسين، كان واضعو الدستور أيضاً مدركين للصلة بين الحكم الذاتي والمساواة الاقتصادية، حتى عندما قاوموا اتجاهات التسوية للثوريين الأكثر راديكاليةً في بنسلفانيا وغرب ماساتشوستس ومناطق أخرى.
كتب جوزيف فيشكين وويليام إي فورباث في كتابهما «الدستور المناهض للقلة.. إعادة هيكلة الأسس الاقتصادية للديمقراطية الأميركية»: «هذا النمط الجمهوري من الحرية لم يكن نموذجاً لسياسة عدم التدخل، ولكن بالأحرى لدعم الهيمنة من أصحاب الأمر والنهي». وأضاف الكاتبان أن هذا النمط الجمهوري من الحرية يتطلب استقلالا مادياً: «إما نقص الموارد الوافرة للأميركيين العاديين في القاعدة الاجتماعية أو التركيز الدائم للثروة في القمة، والذي من شأنه أن يؤدي إلى هلاكها».
هذه البصيرة هي التي ألهمت الشخصيات، بخلاف جون آدامز وتوماس جيفرسون، لإبداء ملاحظات مماثلة حول الحاجة إلى إبقاء عدم المساواة تحت السيطرة. كتب آدامز في رسالة عام 1776 أن «ميزان القوى في المجتمع يرافق ميزان الملكية في الأرض. الطريقة الوحيدة الممكنة، إذن، للحفاظ على توازن القوى إلى جانب الحرية المتساوية والفضيلة العامة، هي جعل حيازة الأرض أمراً سهلا لكل فرد في المجتمع، وتقسيم الأرض إلى مساحات صغيرة، بحيث يكون لدى الجمهور أملاك، وبهذا سيهتم بحرية وفضيلة ومصلحة الجميع في جميع أعمال الحكم».
وكتب جيفرسون في رسالة عام 1785 إلى جيمس ماديسون: «في أي مكان من أي بلد توجد أراضٍ غير مزروعة وفقراء عاطلين عن العمل، من الواضح أن قوانين الملكية قد امتدت إلى حد انتهاك الحق الطبيعي. مُنحت الأرض كمخزون عادي للإنسان ليعمل عليه ويعيش عليه. إذا كان علينا، من أجل تشجيع الصناعة، السماح بتخصيصها، فيجب أن نحرص على توفير فرص عمل أخرى لأولئك المستبعدين من التخصيص». وتابع: «إن صغار ملاك الأراضي هم أغلى جزء في الدولة الأميركية».
ويمكنك أن ترى هذه المشاعر تتجلى طوال القرن الـ19، حيث احتلت الصراعاتُ حول الأرض والعمل وتركيز الثروة مركز الصدارة في السياسة الأميركية. وقد كتب أندرو جاكسون، عندما استخدم حق النقض ضد إعادة ميثاق بنك الولايات المتحدة عام 1832: «من المؤسف أن الأغنياء والأقوياء غالباً ما يحرفون أفعال الحكومة لأهدافهم الأنانية». وكانت معارضة البنك، بالنسبة لمارتن فان بيورين، تعني الدفاع عن «المبدأ الحيوي، أي سيادة الإرادة الشعبية التي تكمن في أساس الحكومة الحرة».
كان الصراع السياسي حول العبودية في أربعينيات وخمسينيات القرن الـ19 يدور أيضاً حول التأثير المدمر للثروة والقوة المركزة على الحكومة الحرة بقدر ما كان يدور حول أخلاق العبودية. «هناك عناصر معينة من الأمن والرفاهية والعظمة للدول، والتي نعترف بها جميعاً أو يجب أن نعترف بها كعناصر أساسية، وهي ضمان الحقوق الطبيعية، ونشر المعرفة، وحرية الصناعة»، كما أعلن ويليام سيوارد في قاعة مجلس الشيوخ عام 1850. وأضاف: «العبودية لا تتوافق مع كل هذه، وتتناسب تماماً مع المدى الذي تسود فيه وتسيطر عليها في أي دولة جمهورية، فقط إلى هذا الحد فإنها تخرب مبدأ الديمقراطية وتحول كيان الدولة إلى الأرستقراطية أو الاستبداد».
أينما نظرتَ في تاريخ الولايات المتحدة، ترى الأميركيين يتصارعون مع الروابط بين المساواة وعدم المساواة والديمقراطية. وقد كافح العديد من هؤلاء الأميركيين بشكل حاسم لجعل الديمقراطية نفسها أداة توزيع أكثر إنصافاً للثروة والمكانة. وكما يروي المؤرخ لورانس جودوين في كتابه «اللحظة الشعبوية.. تاريخ قصير للثورة الزراعية في أميركا»، فقد «اكتشف عدد كبير من الناس في الولايات المتحدة أن الفرضيات الاقتصادية لمجتمعهم كانت تعمل ضدهم»، ولذلك «حاولوا من خلال السياسة الديمقراطية إخضاع الدولة القائمة على مبدأ الاتحادية في الشركات للسيطرة الشعبية» واستخدام سلطتها لتحقيق قدر من المساواة في حياتهم.
هناك العديد من المفكرين الأميركيين الآخرين، بعضهم مشهور وبعضهم الآخر أقل شهرة، الذين ربطوا هذه العلاقة بين الديمقراطية وعدم المساواة الاقتصادية. والفكرة الأساسية لديهم هي أن الديمقراطية هي أكثر من مجرد مجموعة من القواعد والمؤسسات والإجراءات: إنها طريقة حياة قائمة بذاتها، أسلوب يوجه شكلَ مجتمعنا بقدر ما يفعل هيكل حكومتنا. وفي أقوى حالاتها، مما يثير استياء الحراس والمدافعين عن الثروة والامتيازات، تحمل الديمقراطية وعداً بعالم أكثر مساواة. أو كما لاحظ الفيلسوف والناقد الاجتماعي جون ديوي، عشية الحرب العالمية الثانية، فإن «التخلص من عادة التفكير في الديمقراطية كشيء مؤسسي وخارجي، واكتساب عادة التعامل معها كأسلوب للحياة الشخصية، هو لإدراك أن الديمقراطية هي مثال أخلاقي وبقدر ما تصبح حقيقة أخلاقية. إنها تتمثل في إدراك أن الديمقراطية حقيقة واقعة فقط لأنها في الواقع مكان عادي للعيش».

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»