في أحدث تصعيد لـ«الثورة» التي أعلنها ضد النظام السياسي العراقي، والتي تشمل ضغوطا من أجل تنظيم انتخابات جديدة، أمر رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر أتباعه قبل أسبوعين بالسيطرة على مكاتب القضاء. أتباع الصدر كانوا يأملون تكرار نجاحهم في إغلاق البرلمان العراقي، الذي اعتصم خارجه أنصار التيار الصدري لأسابيع من أجل الحؤول دون تشكيل خصومه السياسيين لحكومة جديدة. وكانت الكتلة الصدرية في البرلمان قد فشلت في القيام بذلك بنفسها، رغم فوزها بأكبر عدد من المقاعد في انتخابات أكتوبر 2021.

ولكن يوم الثلاثاء، لم يدخل أتباع الصدر أبواب مبنى مجلس القضاء الأعلى، وسط سيل من ردود الفعل السلبية الفورية - بما في ذلك من مسؤولين قضائيين عراقيين، وقادة مليشيات شيعية مدعومة من إيران، والأمم المتحدة - التي حذّرت من مزيد من التآكل في شرعية الدولة العراقية. وبحلول الليل، أُمر أنصار الصدر بالانسحاب، حيث تلقوا تعليمات من زعمائهم بمغادرة مكاتب القضاء ولكنهم تركوا خيامهم منصوبة، في مؤشر إلى استمرار «الضغط». ويقول محلل سياسي ومسؤول حكومي سابق في بغداد: «إن ما نراه حالياً هو اختبار للمؤسسات الديمقراطية العراقية الفتية بخصوص حدود تحملها وقدرتها على الصمود في وجه هذه الصدمات».

ويضيف قائلاً: «إن برلماننا غير موجود؛ لأن أنصار الصدر يعرقلونه، وقضاؤنا قرر الإغلاق بسبب محاولة أتباع الصدر دخوله. ثم لديك حكومة لتصريف أعمال منصرفة في الجهاز التنفيذي». ويقول: «وبالتالي، فإن الفروع الثلاثة من الحكومة إما مصابة بالشلل أو تفتقر للسلطة بشكل كامل»، مضيفاً «وهذه أقصى درجات الضعف التي يمكن أن تبلغها دولة دون الانهيار... إننا في منطقة مجهولة».

ومن جهة أخرى، تكشف الأزمة السياسية العراقية الحالية مدى هشاشة البلاد وخضوعها لأهواء تيار ساخط غير منتخَب يمثله السيد الصدر. والواقع أن رجل الدين الشيعي تسبب في التطورات الحالية بنفسه، وذلك من خلال إصداره أمراً مفاجئاً للبرلمانيين الـ73 التابعين له - أكبر كتلة في البرلمان - من أجل تقديم استقالة جماعية في شهر يونيو الماضي، وذلك بعد أن فشلوا في تشكيل حكومة عبر التحالف مع حزب كردي مهم ومجموعات سنية أصغر.

ومن جهة أخرى، يمكن القول، إن الضوابط المؤسساتية كانت فعّالة إلى حد ما، حيث منعت من تفكيك الديمقراطية العراقية الفتية بشكل كلي. وعلى الرغم من تفشي الفساد والعيوب الواضحة وحلقات الشلل والجمود الطويلة، إلا أن النظام كان بمثابة غراء سياسي بالنسبة للفروع الطائفية المختلفة في العراق منذ أن أطاح الجنود الأميركيون بصدام حسين في 2003.

ومما يزيد من تقلب الوضع في العراق أن الصدر، الذي تزعم أتباعه معارضة الاحتلال العسكري الأميركي، والذي أنشأ ميليشيا «جيش المهدي» لهذا الغرض، يخوض معركة سياسية شيعية-شيعية. ومن الجانب الآخر، تزعم عدد من المليشيات والأحزاب المنافسة، والكثير منها مدعوم من إيران، القتالَ ضد تنظيم «داعش» اعتباراً من 2014.

وعندما أمر الصدر بالاستقالة الجماعية من البرلمان، عُوِّض أتباعه - وفقاً لقانون جديد سن في 2021 - بالمرشحين الذين حلّوا في المرتبة الثانية، والذين كانوا في كثير من الحالات من المجموعات الشيعية المنافسة، ويسمون «الإطار التنسيقي». وتعليقاً على هذا الموضوع، يقول عباس كاظم، مدير «المبادرة العراقية» في المجلس الأطلسي في واشنطن، إن «الافتقار لاستراتيجية» طبع قرار الصدر سحب أتباعه من البرلمان، معتبراً أن ممارسة الضغط على القضاء من أجل الذهاب إلى انتخابات جديدة «هو معركة خاسرة بالنسبة لهم»، وذلك على اعتبار أن القضاء لا يستطيع من الناحية القانونية حل البرلمان.

ويقول عباس كاظم: «لقد سلّموا مقاعدهم لمنافسيهم، وحكموا على أنفسهم بالخروج من أي مشاركة سياسية في الحكومة»، مضيفاً «والحال أنهم لو استعانوا بمستشارين، لربما قال لهم أحد ما: (إنكم بهذا إنما تقدِمون على انتحار سياسي)، ولكنّ أحداً لا يستطيع الخروج والقول إن هذا الأمر خطأ. والآن ها هم يخرجون ويريدون العودة»، يقول كاظم، ذلك أن أي كتلة سياسية عراقية لا تستطيع تحمل تكلفة أن تبقى خارج الحكومة لثلاث سنوات ونصف السنة أو أربع سنوات.

لقد حوّلوا العراق إلى قطار منفلت خارج عن السيطرة في الوقت الراهن، حيث لا يوجد برلمان، ولا قضاء، وليس هناك سوى حكومة تصريف أعمال ذات صلاحيات مقلّصة بشدة. وفي الأثناء، تثير مطالبة الصدر بانتخابات جديدة أسئلةً بين العراقيين حول دواعي الحاجة إلى تصويت جديد بعد جولة أكتوبر 2021 التي حقّق فيها أنصار الصدر نتائج جيدة جداً.

تلك الجولة، التي عكست استياء العراقيين المتزايد من نظامهم السياسي، شهدت أدنى نسبة مشاركة في مرحلة ما بعد صدّام، بـ43% فقط مقارنة مع نحو 70% في انتخابات 2005 التشريعية. انتخابات أكتوبر الماضي نفسها كانت أُجريت مبكِّراً - وبشكل حر ونزيه إلى حد كبير، وفقاً للأمم المتحدة ومراقبين آخرين - وذك بفضل احتجاجات ضخمة للمجتمع المدني في 2019 - 2021 ضد الفساد، وقلة فرص العمل، ونقص الكهرباء، إضافة إلى التأثير الكبير للميليشيات الشيعية المدعومة من إيران على السياسة.

وخلافاً لتلك الاحتجاجات، التي كانت تحظى بدعم قطاعات واسعة من العراقيين الغاضبين، فإن استعراض القوة الحالي في الشارع ينفَّذ من قبل أتباع الصدر فقط. ومن غير الواضح ما إن كانت انتخابات جديدة - التي سيستغرق تنظيمها سنة في كل الأحوال وستتطلب تمويلاً جديداً - ستكون كافية لإرضاء التوقعات التي رفعها السيد الصدر بين أتباعه بشأن «ثورة».

*صحفي متخصص في شؤون الشرق الأوسط .

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»