لم تكن زلة لسان أطلقها رئيس الوزراء الإسرائيلي المؤقت يائير لابيد مؤخراً بشأن القدرات النووية للدولة العبرية، فقد سبقه من قبل شيمون بيريز، وهو مهندس القنبلة وأحد صناعها على المستوي السياسي، وكذلك اسحق رابين وأيهود باراك. ولم تكن كل هذه التصريحات في إطار من رفاهة الطرح أو السياق الدعائي بل تعبر لنا وبوضوح كيف تفكر إسرائيل السياسية إلي جنب إسرائيل الإستراتيجية والعسكرية، والتي تبنت إستراتيجية التكتم والصمت إزاء ما يجري في امتلاك السلاح النووي والروؤس النووية. هذا التكتم دفع إسرائيل إلى القبض على أي عالم أو فني يطلق مثل هذه التصريحات مثلما تم مع العالم النووي موردخاي فانونو في الثمانينيات والتي اعترف خلالها بقدرات إسرائيل النووية وما تملكه من رؤوس وإنتاج في المفاعلات النووية، وأهمها وقتها ديمونة وناحال سوريك. 

وظل هذا الأمر لسنوات طويلة وهو الصمت والضبابية وعدم الإعلان، وقد قابل ذلك وجهة نظر سياسية كانت تتردد من آن لآخر بضرورة الخروج من هذه الحالة من عدم الوضوح إلى عالم أرحب لا يعترف إلا بالكبار والقوة العسكرية إلى الإعلان الاستباقي عن هذه القدرات، بعد أن بدأت إيران في دخول الدائرة والبدء في إنتاج اليورانيوم المخصب، والانتقال تدريجيا إلي صناعة القنبلة، وهو ما حذرت منه أجهزة المعلومات الإسرائيلية، وأهمها شعبة الاستخبارات العسكرية «أمان»، والتي بدأت في تسويق التقييم الاستراتيجي على مستوي الدولة العبرية وخارجها، وفي جولات الحوار الاستراتيجي مع واشنطن، ومن ثم بدأ الحديث الصامت وعلى مستوى «أمان» وتلاه مجلس الأمن القومي بالتأكيد على أن سياسة عدم الشفافية بالنسبة لإسرائيل لم تعد كافية، وأن وسيلة الردع التي تواجه إسرائيل من الجبهة الإيرانية، ما يدفع نحو الانتقال تدريجياً إلى الإعلان عن أن إسرائيل دولة نووية شأنها شأن دول النادي النووي بصرف النظر عن عدم التزامها بمعاهدة منع الانتشار النووي التي ترفض إسرائيل الانضمام لها، والتعامل مع خبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية، سواء في التحقق أو منع الانتشار، أو مراقبة ما يجري.
وإسرائيل ترفض الالتزام بأية مقررات دولية في التعامل بل ورفض أي مسار للتحرك تحت المظلة الدولية التي تعمل بها باقي الدول النووية، ووفق كل حالة. وانتقال إسرائيل من عدم الوضوح، والاعتراف بامتلاك النووي إلى دولة أقرت بامتلاك النووي أمر سيدفع لمزيد من التبعات على إسرائيل، وسيفرض واقعاً سياسياً واستراتيجياً جديداً ربما ستكون له تداعياته الكبيرة، والتي تتطلب مواقف أخرى لم تكن قائمة من قبل. ومنذ امتلاك إسرائيل للسلاح النووي بصورة غير رسمية، والتجاذب الكبير قائم في إسرائيل بين المستويين السياسي والاستراتيجي مرتبط بالأساس بأي مسار ستعمل فيه إسرائيل في الفترة المقبلة إزاء ما يجري في الإقليم من تطورات حقيقية مرجعها احتمالات كسر حالة الاحتكار التي عرفتها منطقة الشرق الأوسط من خلال امتلاك إسرائيل للقنبلة النووية، وتزايد إنتاج الرؤوس النووية، وهو ما يؤكد على أن إسرائيل تراجع حساباتها وتقييماتها، ولن يكون سهلا الاعتراف بالوضع النووي الراهن لأن هذا التوجه – إن تم – سيفتح النار على إسرائيل وسيؤدي لتداعيات سلبية كبيرة، وهو ما يحذر منه البعض في هيئة الأركان تحديدا، وامتد إلى بعض الجنرالات المتقاعدين في مركز «السادات بيجين للدراسات الاستراتيجية»، والذين يتخوفون من ارتدادات ما قد يجري في حال تغيير الإستراتيجية الإسرائيلية الراهنة في الملف النووي..
في كل الأحوال ستظل السياسة النووية الإسرائيلية الراهنة والمحتملة محل تباين بين الدوائر السياسية والإستراتيجية في ظل الصراع على جملة من السياسات الأخرى، ومنها العمل على محاور التعاون الإقليمي، وتنشيط الحضور الاستراتيجي في الإقليم، والانتقال تدريجيا إلى علاقات أكثر في دوائر النفوذ السياسية والإستراتيجية المستجدة لصانع القرار. وسيبقي الإعلان الرسمي عن القدرات النووية مؤجلا لحين اتضاح رؤية التعامل في المحيط العربي والإقليمي لإسرائيل.
* أكاديمي متخصص في الشؤون الاستراتيجية والعلوم السياسية