بعد التقليل من شأن أسوأ اندلاع للتضخم منذ عقود، تدفع البنوك المركزية الآن اقتصاداتها نحو الركود من أجل ترويض الأسعار. وتثير التوقعات الصارمة المخاوف من أن صانعي السياسة سينتهي بهم الأمر إلى المبالغة مع مضيهم قدما في رفع أسعار الفائدة، كما يقر البعض الآن أنهم بالغوا في حزم التحفيز أثناء التعافي من الجائحة. وليس لدى البنوك المركزية حاليا في كثير من الاقتصادات المتقدمة والناشئة إلا خيار مواصلة زيادة سعر الفائدة في مواجهة التضخم الذي لم يبلغ ذروته بعد.

وتتوقع وحدة «بلومبيرج إيكونوميكس» أن يرتفع التضخم العالمي من 9% على أساس سنوي في الربع الثاني إلى 9.3% في الربع الثالث قبل أن يتراجع إلى نسبة مازالت غير مطمئنة تبلغ 8.5% بنهاية العام. ويتوقع اقتصاديون في «سيتي جروب» احتمالات حدوث ركود عالمي بنسبة 50%.

وتوقع اقتصاديون في «بنك أوف أميركا» حدوث «ركود معتدل هذا العام» في الولايات المتحدة بعد أن تدهورت الأوضاع بسرعة أكبر بكثير مما توقعوا. وانهارت ثقة المستثمرين في قدرة صانعي السياسات على تجنب الركود. ووصلت توقعات النمو العالمي والأرباح إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق، كما بلغت توقعات الركود أعلى مستوياتها منذ التباطؤ الناجم عن الجائحة في مايو 2020، وفقا لمسح شهري لمدراء الصناديق لبنك أوف أميركا.

ويرى داريو بيركنز، محلل الاقتصاد الكلي العالمي في شركة «تي. إس. لومبارد» الاستشارية، أنه بينما تظل أسواق العمل قوية، سيظل محافظو البنوك المركزية بحاجة إلى السير بحذر. ومضى بيركنز يقول «نحن نسير في هذا الطريق السريع للإفراط في التشديد. والمثير للقلق هو أن صانعي السياسة، بعد أن أحرجهم التضخم، يريدون الآن تصحيح الوضع والخطر يتمثل في أنهم يتجاوزن الحد ويسببون أضرارا بلا داع للاقتصاد العالمي». وأعرب بعض المسؤولين بالفعل عن مخاوفهم بشأن وتيرة رفع أسعار الفائدة. ومن بين هؤلاء، رئيسة بنك الاحتياطي الاتحادي في مدينة كانساس، إستر جورج التي حذرت هذا الشهر من أن الدفع نحو تشديد السياسة قد يأتي بنتائج عكسية.

ورفع البنك المركزي الأوروبي سعر الفائدة الرئيسي 50 نقطة أساس، في أول زيادة منذ 11 عاما والأكبر منذ عام 2000. وجاء ذلك مع زيادة احتمال الانكماش إلى 45% صعودا من 30% في يونيو، وفقا لمسح أجرته بلومبيرج على اقتصاديين. ويدرس (بنك إنجلترا) زيادة 50 نقطة أساس في أسعار الفائدة. وبالفعل رفع الاحتياطي الاتحادي في 27 يوليو أسعار الفائدة بمقدار 75 نقطة أساس أخرى. وتسبب بنك كندا في صدمة بالفعل بعد زيادته سعر الفائدة 100 نقطة أساس.

ومن بين الاقتصادات الناشئة، رفع البنك المركزي لجنوب أفريقيا سعر الفائدة 75 نقطة أساس، في أكبر زيادة منذ ما يقرب من عقدين. والفلبين رفعت فجأة هذا الشهر سعر الفائدة 75 نقطة أساس. ويواجه المسؤولون النقديون الآن معركة شاقة لاستعادة الثقة، بعد أن أخطأوا في تقدير تصاعد التضخم. وفي المملكة المتحدة، تعين على حاكم بنك إنجلترا (المركزي)، أندرو بيلي، الدفاع ضد هجمات السياسيين في حزب «المحافظين» الحاكم الذين لاموا البنك على بطئه الشديد في التصدي للتضخم. واعترف محافظ بنك «ريكسبانك» المركزي السويدي، ستيفان إنجفيس، هذا الشهر بأن البنك قد يمر «بسنة سيئة» بعد الشهر التاسع على التوالي من التضخم الذي تجاوز توقعاته. وفي اعتراض نادر، أقر محافظ المركزي الأسترالي، فيليب لوي، في الأيام القليلة الماضية أن المبالغة في التحفيز في أعقاب الجائحة فاقمت الضغوط على الأسعار. وصرح في كلمة «بينما كان هذا النهج يعني أننا تجنبنا بعض الندوب طويلة الأمد الضارة، لكنه ساهم في الضغوط التضخمية التي نشهدها الآن».

وهذا يتركه، مثل كثير من أنداده، مضطرا إلى التضحية بالنمو الاقتصادي في مقابل كبح جماح الأسعار. وذكر رافي مينون، العضو المنتدب في «السلطة النقدية في سنغافورة» التي تقوم بدور البنك المركزي، في إفادة صحفية في 19 يوليو أنه «من المتوقع أن يتفاقم التضخم قبل أن يتحسن.

وبطء النمو الاقتصادي ضروري» لاستعادة الاستقرار العالمي. وفي تحذير للبنوك المركزية بشأن ما ينتظرنا، وجد تحليل أجرته سيتي جروب لدورة زيادات أسعار الفائدة التي قام بها الاحتياطي الاتحادي بين عامي 2015 و2018 أن الاقتصاد يتباطأ بسرعة أكبر مما توقعه الاحتياطي الاتحادي في «تذكرة قوية بأنه سيتعين على الاحتياطي الاتحادي التحلي بالرشاقة وسرعة الاستجابة والاستعداد للمفاجآت».

وفي اجتماع في الآونة الأخيرة لوزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية من أكبر الاقتصادات في العالم، حرص المسؤولون على إلقاء اللوم على روسيا في موجة التضخم العالمية وفي التدهور الشديد في توقعات النمو، وليس على سياستهم الخاصة وأخطاء التنبؤات. وهناك تعاطف معهم من بعض الاقتصاديين.

ويرى «سلوين كورنيش»، الخبير في تاريخ السياسة الاقتصادية بالجامعة الوطنية الأسترالية، أن اتساع نطاق الأحداث في السنوات الأخيرة بما في ذلك الجائحة والحرب والظواهر المناخية المتطرفة، قد أدى إلى تعقيد عمل البنوك المركزية. وسأل كورنيش قائلا «كيف نتوقع هذا بدقة كافية؟

علينا توخي الحذر قبل الإمعان في الانتقاد». وترى سايوري شيراي، العضو السابق في مجلس إدارة بنك اليابان (المركزي) والأستاذ بجامعة «كيو» حاليا إن استعادة السيطرة على التضخم سيكون أمراً حاسماً لدعم ثقة الجمهور بالسياسة النقدية. وذكرت إن دوامة مطالب زيادة الأجور أو الآراء الراسخة للأسعار المرتفعة ستقوض الثقة أكثر.

إندا كوران*

محلل اقتصادي أميركي.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»