عندما يتجرأ سفير دولة أخرى في العراق ويقول: «الوقت لم يحن بعد لحكومة أغلبية في العراق»، في إطار تعليقه على الأزمة السياسية في البلاد ومسار تأليف الحكومة، فهذا يعني أن العراق يعاني منذ عشرين سنة تدخلات خارجية أشبه باحتلال. والتدخلات والإملاءات تفرض واقعاً مهيناً على الشعب العراقي، وهي تمس كل مكونات الشعب الموضوع تحت الوصاية الجبرية الطائفية والإثنية والفكرية الخارجية!

فالمحاصصة تعيب الدولة المدنية الديمقراطية، وتضع المذهب فوق المواطنة، وتجعل الطائفة والقومية بديلة للدستور. وأعتقد في حال وفاة السيد علي السيستاني ستُسلم الدولة على طبق من ذهب للمستعمر وفرض واقع اندلاع الحرب الأهلية لتحرير البلد من الاحتلال بعد المقاطعة الكاملة للساحة السياسية المؤدلجة.

فالكل يعلم أن الديمقراطية في مجتمع يفتقد إلى البنية التحتية للديمقراطية هي طريق مليء بالأشواك والعقبات التي لا يتجرأ أحد على إزالتها، ونحن هنا لا نتحدث عن فصيل أو فئة أو نخبة أو طبقة من الشعب، وإنما عن المكون الوطني الشعبي بكل أطيافه وانتماءاته، والتي من المفترض أن تختزل في انتماء واحد وهو الوطن، وهو أمر لا يعكسه الواقع العراقي في الميدان في ظل التدخل السافر في الشؤون العراقية من الخارج، بالتعاون مع من هو مستفيد من ذلك لسبب أو لآخر في الداخل، حتى أصبح المنصب السياسي هو تذكرة الدخول لعالم الثروات للعديد ممن يتاجرون باسم وطن جعلوه مسلوب الإرادة، وآخرين يحسبون أن الطريق إلى الجنة يمر من خلال الدوائر الانتخابية لدعم شتى المشاريع التي تنمّي الروح الانفصالية، وذلك من خلال الميليشيات والحشود المسلّحة التي جعلت أهم المؤسسات الحكومية بمثابة حارس يؤمّنها ولا يتدخل في ما تعبث به، حتى أصبح لها سجونها ومعتقلاتها الخاصة، واحتواء مفهوم الوطن في الأشخاص والمرجعيات.

شهور طويلة قد مضت والدولة العراقية من دون حكومة، وتعطيل لجلسات مجلس النواب. ويشير الحراك الشعبي دائماً إلى البقاء غير الدستوري لرئيس الجمهورية ورئيس الحكومة واغتيالات عناصر الأحزاب، وقمع الحراك الشعبي المطالب باسترجاع هيبة الدولة والخلاص من الهيمنة الطائفية الموالية للعمائم والرايات من جهة، ولإنقاذ المذهب والإيديولوجية والعرق والعشيرة من جهة أخرى.

والكل يتجاذب رقعة الوطن التي أصبحت بالية، وجاء «حراك تشرين» الشعبي كثورة قام بها أهل السنة والجماعة في عدد من المحافظات العراقية، بمشاركة نسبة من بين المكونات الأخرى التي تعيش في العراق، وبينهم شيعة ونصارى ومن الديانات الأخرى، وقد انتفضت هذه المحافظات جراء حملات الاعتقالات والتهميش والقتل والإعدامات التي تطال المئات. وبطبيعة الحال ركب موجة هذا الحراك العديد من المنتفعين وبعض السياسيين والبرلمانيين.

فمنذ 2003 انهارت الدولة العميقة واستُبدلت بالميليشيات العميقة لتسارع الحكومات الطائفية إلى حرق الأخضر واليابس، وتدمير أركان الدولة، ما ظهر منها وما بطن، في خطوة هي من أهم أسباب استمرار الفوضى العارمة في المشهد السياسي، وذلك بوصاية وتوجيه وإدارة غير مباشرة من الذين يهمهم أن يبقى العراق دولة طائفية لخدمة مخططاتهم في المنطقة، وتصدير نماذجهم للضغط على منافسيهم الإقليميين قبل الدوليين، وكان قدر العراق أن يكون حصان طروادة ليبقى العراق سجيناً بين العمائم السوداء والبيضاء، والأزياء التقليدية المرتبطة بالهوية العرقية وتيارات تتخندق حول المرجعية والنزعة القومية.

ومن جهة أخرى، هل ستجدي المليونيات واستعراضات القوة والترهيب والرسائل التي تبعث من خلاها للداخل والخارج كخطوة استباقية للتأثير في مخرجات أي قمة أو تقارب سياسي؟

وهو ما يعني أن أي حكومة ستشكل لن تستمر أكثر من 6 أشهر على أكثر تقدير إن شكلت دون مباركة «الصدر»، ومن يقف خلف ذيول الطائفية، وتعطيل انضمام العراق لناتو عربي أو شرق أوسطي، والتلويح برفض إخراج العراق من دائرة محور المقاومة الوهمي، حيث من الأجدر أن يقاوم الاحتلال الداخلي ليستعيد العراق هيبته في المنطقة والعالم.

* كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات.