استلقت على الأريكة وبدأت تتحدث عن والديها: «بينما كانت دوروثي تتقدم بطلب للعمل في شركة نسيج، التقت بائعاً جوّالاً يدعى رودهام. وبعد مدة غزل تزوّجا. كان اقتراناً بائساً بقيت دوروثي نادمةً عليه حتى موت رودهام، غير أنها حافظت على العلاقة الزوجية، لإيمانها بأنّ لا شيء أهم من بقائها مستمرةً بالنسبة إلى الأولاد». 
هذا ما نقلته الدكتورة آلما بوند على لسان هيلاري كلينتون في كتابها عنها «على كرسي الاعتراف». والكتاب سيرة تحليل متخيّل، فالمؤلفة كانت محلّلة نفسيةً لسنوات طويلة قبل تفرّغها للكتابة، وهي معروفة ب«سلسلة على كرسي الاعتراف»، إذ تختار شخصيةً مشهورة وتتخيل حضورها إلى عيادتها، وفي هذا الكتاب تفترض أنّ هيلاري لجأت إليها طلباً للنجدة النفسية إثر افتضاح أمر علاقات زوجها النسائية. 
فبماذا علقت الدكتورة على كلام هيلاري المتخيّل: «لم أقتنع بذلك. أعتقد أنّ دوروثي كانت -بطريقة شاذة ما- تحب زوجها، تماماً كما أظن أنّ هيلاري تحب بيل. وبالنسبة إلى السادومازوخيين، فإنّ الحب لا يمكنه أن يكون حباً بلا ألم». ثم تعرّف المؤلفة السادية بأنها التلذذ بإيقاع الألم على الطرف الآخر، والمازوخية بأنها التلذذ بالألم الواقع على الذات.
وكل ما مرّ هو خيال محضّ إلا تشخيص المؤلفة لحالة والدة هيلاري، فلو كانت قد لجأت إليها فعلاً، وقالت ما قالت عن والدتها، لَما كان تشخيصها مختلفاً، فهي مضطربة نفسياً، لأنه رغم ندمها على الزواج من ذلك البائع الجوّال، فقد حافظت على العلاقة الزوجية، لإيمانها بأنّ لا شيءَ أهم من بقاء الحياة الزوجية مستمرةً بالنسبة إلى الأولاد.
ولا أدعي هنا معرفةً بالاضطرابات النفسية، لكن يبدو لي أنّ هذا التشخيص ينتمي إلى نمط الأفكار التي تحث الفردَ على تقديس ذاته، والاكتفاء بذاته، والانكفاء على ذاته، وتصوّر تضحية الفرد أو تحمّله أو صبره أو مكابدته لصالح الأسرة أو الجماعة ضعفاً وخطيئةً، كأنّ كل الأفراد من طينة واحدة معتمدة، أو يجب أن يكونوا من تلك الطينة وإلا كانوا مرضى ومضطربين. 
ورغم أنّ والدة هيلاري لم تنفصل عن زوجها حتى تضمن جواً أسرياً طبيعياً لأولادها، وربما تفكيرها هذا كان يقوم على أسباب قوية في نظرها وبالنسبة إلى ظروفها، فإنّ هذه التضحية مجرد اضطراب نفسي في نظر المحلّلة النفسية، ولا تستأهل عنها إشادة أو تقديراً أو حتى تفهّماً، فلا أحد يشكر المريض على تحمّله لمرضه، بل الجميع يوبّخه لأنه لا يبادر إلى تلقي العلاج. 
ومن يقدّر ذاته ولا يرضى عليها الأذى أو المهانة إنسان سويٌ بلا شك، لكن هل هذا يعني أنّ الصبرَ والتحمّلَ دائماً نوعٌ من الاضطراب النفسي! فقد يرى هذا الإنسان أنّ الصبر والتحمّل يفضيان إلى أهداف أعظم وأسمى، وبالوصول إلى هذه الأهداف يحقق ذاته. 
وأعتقد أن هذه النوعية من الأفكار التي تلقى رواجاً هذه الأيام تضرب فكرة الأسرة في مقتل، وبالتالي المجتمع نفسه، ذلك أنه يصعب التوفيق بين المغالاة في حب الذات وتكوين الأسرة والمحافظة عليها، فالأسرة لا تقوم، ولا تستمر، إلا بتنازل كل فرد من أفرادها عن جانب من تطلعاته وأحلامه وراحة باله وحبه لنفسه. 

كاتب إماراتي