خضعتُ منذ مدة لعملية جراحية أُجريت لي في أحد مستشفيات بيروت، احتجتُ بسببها لكمية من الدم لتعويض ما فقدتُه أثناء العملية. وتقدّم أحد الأصدقاء متبرّعاً، غير أن الطبيب رفض قبول تبرّعه لأنه مولود في أفريقيا. ورغم أن المتبرّع أكّد أنه من أبوين لبنانيين، فإن الطبيب لم يغيّر رأيَه لأسباب طبيّة.
في دم الإنسان أسرار ما يزال الطبّ الحديث يحاول اكتشافها. من ذلك مثلاً: لماذا هناك عدة فصائل من الدم؟ وما الحكمة الإلهية من وراء هذا التنوّع حتى داخل الأسرة الواحدة؟ ولماذا يؤدي اختلاط فصيلتين مختلفتين في جسم الإنسان إلى مضاعفات تؤدي إلى الوفاة؟
إن نقاطاً قليلةً من الدمّ تكفي للكشف عن الحالة الصحية للإنسان، إذ يمكن اليوم من خلالها معرفة ما إذا كان مصاباً بمرض ما، كالسرطان مثلاً، في أي عضو من أعضاء جسمه.
ولماذا تتعرّض المرأة للدورة الشهرية؟ ولماذا هي شهرية؟ خلال كل ثلاث ثوان فقط، وعلى مدى الأربع وعشرين ساعة، تجري عملية نقل دم من إنسان معافى إلى إنسان مريض أو جريح. وقد أدى ذلك إلى انتشار ثقافة التبرّع بالدم في ظروف الحرب والسلم على حد سواء، كما أدى إلى انتشار بنوك الدم. وتحوّل التبرّع بالدم من عمل إنساني راقٍ، إلى تجارة تخضع لمقاييس العرض والطلب.
ويُطلق على الولايات المتحدة لقب «أوبيك الدم». ويعود ذلك إلى أنها أكبر دولة في العالم تصدّر بلازما الدم. وتزيد عائدات الولايات المتحدة من بيع بلازما الدم عن عائداتها من بيع السيارات. فالبلازما تتجمّع من عمليات شراء الدم من أصحاب الحاجة. ذلك أن القانون الأميركي يسمح لأي شخص بأن يبيع كمية من دمه إلى أحد المراكز المختصة التي تقوم بتخزينه ومن ثم بيعه. لكن البيع ممنوع بالقانون في معظم دول العالم الأخرى. فهو جزء من الإنسان، بل هو الجزء الأهم فيه. ويمكن للإنسان أن يفقد أي جزء من جسمه وأن يستمرّ في الحياة، لكنه لا يعيش حتى بمجرد أن يصاب دمه بالتهاب خبيث.
في عام 1921 أُنشئ في بريطانيا أول مركز للتبرّع بالدم في العالم. لم يكن المركز حكومياً أو رسمياً، بل أنشأه رجل يُدعى «بيرسي أوليفر» وزوجته إيثل في منزلهما. 
وبسبب سرعة تعرّض الدم للفساد خارج جسم الإنسان، كان لا بدّ من تبريده للاحتفاظ به ومن ثم لنقله إلى المحتاجين له في المستشفيات. وتبدأ قصة نقل الدم مع سيدة إنجليزية أرستقراطية تُدعى دانستان. فخلال القصف النازي أثناء الحرب العالمية الثانية على بريطانيا وسقوط الضحايا في الشوارع وفي البيوت، احتاجت المستشفيات إلى كميات كبيرة من الدم لمعالجة المصابين. فقامت هذه السيدة بتعبئة دم المتبرّعين في زجاجات الحليب، ونقلتها في سيارة تبيع المثلجات إلى المستشفى. فكانت تلك أول عملية حفظ موقت ونقل مأمون للدم من المتبرّع إلى المحتاج.
ولعل من أغرب القصص المتعلقة بثقافة الدم ما قام به رجل هندي، إذ اخترع الضمادات الطبية التي تستعملها المرأة أثناء تعرّضها للدورة الشهرية. كان طالباً فاشلاً وأُجبر على ترك المدرسة. لكنه كان مهتماً بشؤون المرأة، فاخترع الضمادات. ثم تطوّر هذا الاختراع الإنساني البسيط ليدخل العالمية على نطاق واسع.
ويعرِف علمُ الطبِّ الحديثِ الكثيرَ عن الدم وأسراره، لكن العلم ما يزال يجهل الكثير عنه أيضاً.
لم يكن نقل الدم من المتبرّع إلى المريض عملاً صالحاً على الدوام. فقد يكون المتبرّع مصاباً بمرض ما وهو لا يدري، وينقل مرضه عبر دمه إلى الآخرين. 
واكتُشف ذلك على نطاق واسع لدى انتشار مرض فقدان المناعة (الإيدز) في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ذلك أن كثيراً من الضحايا أُصيبوا بالمرض القاتل من خلال نقل الدم إليهم لمعالجة مرض عابر.
ويعرف الأطباء اليوم الكثير عن الدم.. لكنهم يعترفون أيضاً بأنهم لا يعرفون كل شيء، وبأن أمامهم الكثير من القضايا الغامضة التي يحتفظ بسرّها هذا السائل العجيب.. والتي يمكن أن تؤدي معرفتُها إلى دخول الإنسانية مرحلة جديدة أكثر تقدماً في تشخيص ومعالجة الأمراض المزمنة.
 
كاتب لبناني