كل يوم تتزايد المخاوف من إمكانية أن تتطور الأزمة حول أوكرانيا إلى نزاع مسلح، وهو ما قد يؤدي إلى وضع شديد الخطورة، هو الأسوأ منذ الأيام الحالكة للحرب الباردة. لكن بالمقابل نسمع كل يوم قصصاً من وسائل التواصل الاجتماعي مفادها أن هناك قلقاً عميقاً بشأن إصابات روسية. كما نسمع قصصاً مفادها أن القادة الصينيين قلقون من أن تؤدي أزمة كبيرة في أوروبا إلى التأثير سلباً على ألعاب بكين الأولمبية الشتوية التي من المقرر أن تنطلق في 3 فبراير المقبل. 
لماذا تتصدر هذه الأزمة الأجندة الدولية؟ أحد التفسيرات هو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يظن أن هذه اللحظة الزمنية تتيح له أحسن الفرص لتحقيق واحد من الأهداف الاستراتيجية المهمة، ألا وهو: إضعاف روابط أوكرانيا بالغرب والقضاء على أي إمكانية لانضمامها إلى حلف «الناتو» أو الاتحاد الأوروبي. ذلك أن بوتين يدرك أنه منذ الثورة الأوكرانية لعام 2014، عندما تمت تنحية القادة الموالين لروسيا، أصبح معظم الأوكرانيين أكثر وطنيةً وموالاةً للغرب وأقل ميلاً لقبول روابطهم الوثيقة السابقة بروسيا. ويدرك أنه إذا واصلت أوكرانيا السيرَ على هذا الطريق، فإنها ستصبح أقرب إلى المؤسسات الغربية. وإذا أدى هذا التقارب إلى تحسن مهم في مستوى المعيشة الأوكراني، مقروناً بنمو الاقتصاد، فإن ذلك يمكن أن يجد له صدى بين المواطنين الروس العاديين. إذ على الرغم من سيطرة بوتين، فهو يدرك أن أي ضغوط لتنفيذ إصلاحات في روسيا ستمثّل تهديداً لوضعه في نهاية المطاف. 
كما يدرك بوتين أن الغرب ممزق في هذه المرحلة، ويعاني من مشاكل داخلية، وأن الولايات المتحدة في عهد الرئيس جو بايدن تواجه العديد من الصعوبات على خلفية طريقة انسحابها من أفغانستان، بينما يبدأ عامه الثاني في البيت الأبيض. 

وبالتالي، فإن هناك حافزاً لبوتين لكي يتصرف بسرعة من أجل إضعاف استقلال أوكرانيا وتقسيم الحلفاء الغربيين أكثر. وهو يريد تشجيع الحجج التي يدفع بها بعض الزعماء الأوروبيين من أن على أوروبا أن تمتلك سياسة تفاوضية خاصة بها تجاه روسيا، وهو ما من شأنه أن يُضعف على نحو حتمي الهيمنةَ الأميركية على حلف «الناتو»، بل وقد يؤدي حتى إلى انسحاب الولايات المتحدة من معظم القواعد في أوروبا، ما سيعني نهاية الناتو في الواقع.
وبالمقابل، هناك حجج مضادة مؤداها أن بوتين ربما يقلِّل من شأن التضامن الأميركي الأوروبي، وأن كبح أوروبا بالقوة والهجمات السيبرانية والترهيب قد يكون أصعب مما يتخيل. فخلال الأسابيع القليلة الماضية، لقي التهديد بعمل عسكري روسي ضد أوكرانيا رداً حازماً جداً من بريطانيا، كما دفع فنلندا المحايدة إلى التساؤل حول ما إن كان يجدر بها الآن أن تبحث وتدرس فكرة الانضمام إلى «الناتو». والواقع أن تسريع وتيرة إمداد أوكرانيا بالأسلحة المتطورة، بما في ذلك الصواريخ المضادة للدبابات والصواريخ المضادة للطائرات، والنشر المتزايد للقوات الأميركية في بلدان الناتو في البلطيق.. يمثلان إشارةً مباشرةً إلى روسيا مفادها أنها لن تواجه عقوبات اقتصادية شديدة للغاية فحسب، في حال أقدمت على غزو أوكرانيا، وإنما تحدياً عسكرياً جدياً على الميدان أيضاً. وبإمكان بايدن، الذي انتُقد من قبل «الجمهوريين» بسبب ما اعتبروه موقفاً ضعيفاً تجاه روسيا، أن يعوِّل على دعم كلا الحزبين لمقاربة أكثر قوةً للأزمة. 
على هذه الخلفية، يتواصل البحث عن حل دبلوماسي. الهدف الغربي في هذه المرحلة هو التأكد من أن موسكو تدرك بأن أي عمل عدائي ضد أوكرانيا سيقابَل بمعارضة شديدة تستهدف الاقتصاد الروسي بشكل خاص. غير أنه بالمقابل يجب على الغرب أن يكون مستعداً لإعطاء روسيا عدداً من المبادرات التي تحفظ ماء الوجه. ذلك أن بوتين يدرك بأن الغرب لن يقبل أبداً تقديم وعد بأن أوكرانيا لن تنضم مستقبلا إلى حلف الناتو أو الاتحاد الأوروبي، لكنه قد يبحث مقترحات بشأن الحد من الأسلحة ومراقبة التسلح في أوروبا شبيهة بالمطالب التي كان يتقدم بها الروس خلال السنوات القليلة الماضية. 
وخلاصة القول، هي أنه على بوتين أن يكون قادراً على أن يُظهر لمواطنيه أن قيادته أنهت أزمة وأكدت للعالم أن روسيا ستظل قوة كبرى يحسب لها ألف حساب وينبغي أخذ رغباتها على محمل الجد تفادياً لمواجهات خطيرة أخرى مستقبلاً.

مدير البرامج الاستراتيجية بمركز «ناشيونال إنترست»- واشنطن