ثمة مناظرة ثقافية كبرى تجري رحاها منذ نحو عقدين من الزمن، تدور عما إذا كانت هناك ثقافة عالمية واحدة. وينقسم المنخرطون في هذه المناظرة إلى فريقين، يروّج أحدهما لصراع الثقافات في العالم، فيما يدافع ثانيهما عن التعددية الثقافية أو التنوع الثقافي. وهنا يقفز اسم صامويل هنتنجتون، صاحب «صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي» (1996)، إلى الواجهة. وتنهض أطروحة «هنتنجتون» على أساس أنّ الصراعات العالمية بعد الحرب الباردة ستندلع بسبب الاختلافات الثقافية، والدينية منها بخاصة، بين البشر، وأنّ الخطوط التي تفصل بين الثقافات، التي تحل محل الحدود السياسية، هي خطوط القتال في المستقبل. ويُصنف «هنتنجتون» ثقافات العالم إلى سبعٍ أو ثمانٍ رئيسة، ويجزم بأنّ الصراع بينها حتمي، وإن كان يُركز على الصراع بين الإسلام والغرب، التي وصف الحدود بينهما بأنها دموية. والغريب أنّ أطروحة «هنتنجتون» التشاؤمية تلتقي مع أطروحة «نهاية التاريخ» لفرانسيس فوكوياما في الادعاء ببلوغ الغرب أوج وقوته وانتصار ثقافته، بيد أنّ هنتنجتون، وبنظرةٍ واقعية، وجد أنّ الغرب لا يواجه ثقافات وشعوباً تسعى للحاق به، وإنما ترغب أيضاً في تشكيل العالم وفقاً لمنظورها الثقافي.
أما الفريق الثاني، فيؤكد على التنوع الثقافي باعتباره تراثاً مشتركاً للبشرية. ويعترف التنوع الثقافي بوجود ثقافات متنوعة ومختلفة في العالم، تحترم كل منها اختلافات الآخرين، وتجمعها الرغبة في العيش المشترك، وتتفاعل تأثيراً وتأثراً فيما بينها. ويتضمن المفهوم كذلك الاعتراف بشرعيّة الثقافات الأخرى في المجتمع/ الإقليم/ العالم، وبأنها مركب مهم وجزء لا يتجزأ من المشهد الثقافي، وعدم التمييز بين البشر على أساس خلفياتهم الثقافية، كما يقول الله تعالى في كتابه: (یَٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَر وَأُنثَى وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبا وَقَبَاۤىِٕلَ لِتَعَارَفُوۤا۟) [سورة الحجرات 13].
وفي هذا الصدد، يُنبه «رضوان السيد» إلى أنّ الثقافات لا تتنافس ولا تتصارع، بل تتفاعل ويأخذ بعضها من بعض، ولا تزيل إحداها الأخرى، بل تتداخل ويتأسس بعضها على بعض. وتتزعم «اليونسكو» وثلةٌ من المنظمات الدولية (مثل منظمة تحالف الحضارات التابعة للأمم المتحدة) هذا التوجه الفكري، الذي ترفده فعاليات حوار الثقافات وحوار الأديان. وفي هذا أصدرت اليونسكو عدداً من الوثائق المهمة التي تُعزز التنوع الثقافي، من أهمها اتفاقية حماية وتعزيز تنوع أشكال التنوع الثقافي (2005)، واتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي (2003)، والإعلان العالمي عن التنوع الثقافي وتسمية 21 أيار/ مايو يوماً عالمياً للتنوع الثقافي للحوار والتنمية (2001). ويُقدَّم حوار الثقافات على أنّه ضروري لإرساء قواعد جديدة لتسوية الصراعات بديلاً عن اللجوء للعنف، وسبيلاً لبناء الثقة بين مختلف الفاعلين الدوليين، وضماناً للتعايش السلمي بين كافة المجتمعات.
وتجد دولة الإمارات نفسها في قلب هذه المناظرة الثقافية الكبرى، حيث نجحت في بناء نموذج من التنوع الثقافي والتعايش السلمي بين الأعراق المختلفة، وهو نموذج أصيل يجد أصوله في الحضارة الإسلامية التي تحتفي بتنوع الملل والنحل والشعوب في إطارها، حيث يعيش على أرض الدولة أتباع لمعظم الديانات ومختلف ثقافات العالم. وفي هذا الخصوص، لابد أنْ نُشير إلى وجود وزارة التسامح في التشكيلة الوزارية، وإصدار قانون مكافحة التمييز والكراهية، ثم اعتماد البرنامج الوطني للتسامح.
تحرص دولة الإمارات على الحفاظ على التنوع الثقافي والإثني لكل من يعيش على أرضها، مما أدى إلى تشكّل مواصفات خاصة لمجتمعها، ترتكز على ذلك التنوع قد لا يتوافر في مجتمعات أخرى، وتعمل القيادة الإماراتية على استثمار التعددية الثقافية بوعي تام، وبما ينعكس إيجاباً على مسار الحياة اليومية والمستقبلية، وعلى عملية التنمية المستدامة ومتابعة المراحل التطويرية التي بدأتها الدولة منذ تأسيسها، واستمرت بمسار تصاعدي إلى يومنا هذا..
واقع الحال يشير إلى أن أشخاصاً ينتمون إلى أكثر من مئتي جنسية يعيشون على أرض دولة الإمارات، كل مجموعة منهم تحمل ثقافتها الخاصة وقناعاتها ومعتقداتها، الأمر الذي قد يجعل عملية التعايش بينهم صعبة، غير أن الإمارات بفكر التسامح الإنساني الذي رسّخته بين الجميع، أزالت أية صعوبة محتملة، ومهدت الطريق لتقدم نموذجاً ذا أهمية في حسم الجدل السائد بين الباحثين عن العلاقة بين الحضارات والثقافات، ذلك النموذج الذي لو طُبّق في أي مكان فإنه يقضي على احتمالات الصراع القائمة على التضاد أو التنافر الحضاري والثقافي. ولعلّ استضافة الدولة لمعرض «إكسبو» 2020 بما يحويه من تنوع وتعددية ثقافية ومعرفية ترسم صورة مصغرة عن مجتمع الإمارات الكبير الحافل بمختلف الثقافات، والمحتفل بتعددية مشارب الموجودين على أرضه، ممن أتوا من جهات الدنيا الأربع.
باحث مهتم بالشؤون الدينية والقيم المجتمعية