حين يريد المثقف العربي أن يتغزل بالغرب وديمقراطيته، فإنه سرعان ما يستحضر في ذاكرته وكتاباته مصطلح «الثورة الفرنسية» كنموذج حاضر دوماً لتلبية الأمنيات بالتغيير نحو الأفضل.

لكن، وببساطة صادمة، فإن الثورة الفرنسية لم تكن كذلك!! والمتتبع لسيرتها الطويلة والمليئة بالدم المجاني المسفوح باسم حريتها وعدالتها، يكتشف أنها كانت بحد ذاتها عنق الزجاجة الذي ضاق على الفرنسيين حد الاختناق فكان الانقلاب عليها – بعد زمن طويل- بالوعي المجتمعي مدفوع الأثمان، وبكلفة باهظة. حين ثارت الجماهير «بكل غوغائيتها المقهورة» على لويس السادس عشر وحكمه الفاسد، هجمت على سجن الباستيل الشهير لتجده خالياً إلا من قلة من السجناء أغلبهم مجرمون بجرائم عادية، لكن ما ارتكبه منظر ثورة الحرية والعدالة المستشار روبسبير بعد ذلك من إعدامات وتصفيات وانتهاكات جاوز في مجموعه كل فترة الملك لويس السادس عشر ومن سبقه.

لذا، فإن الثورة الفرنسية لم تخرج الفرنسيين من الظلم والقهر والفساد، بل الثورة على تلك الثورة نفسها والتي انتهت بإعدام روبسبير نفسه على ذات المقصلة التي تدحرج عليها رأس لويس السادس عشر وزوجته الجميلة ماري أنطوانيت هي التي شقت أول الطريق لوعي الفرنسيين على ذاتهم وعلى مفاهيم الحرية والعدالة والمساواة.

لقد كان للمفاهيم الثلاث تلك طريق طويلة من التبلور في الوعي الفرنسي قبل أن تولد المفاهيم ولادة طبيعية سبقها كثير من الدم والكذب والتضليل. وحتى اليوم، لا تزال الحكاية التاريخية الوهمية هي الغالبة بما نسبوه للملكة ماري أنطوانيت، حين كانت الجماهير الجائعة والغاضبة تحاصر قصر فرساي فقيل بأنها ردت على جوع المقهورين: فليأكلوا البسكويت.

لم تقل ماري أنطوانيت تلك المقولة، وهي لم تكن أكثر من فتاة ثرية مدللة ومترفة لا تعرف شيئاً عن الواقع العام حولها، لكن التاريخ نفسه لا يذكر بأنه أثناء محاكمتها قام سدنة ثورة «العدالة» بتوجيه تهمة مشينة وباطلة لها لتضييق الإدانة حول عنقها فقالوا بأنها مارست زنا المحارم مع ابنها الوحيد، وهي تهمة هدفها تشويه ومسخ تلك المرأة، لكن أنطوانيت قامت بكل شجاعة في المحكمة لتترافع عن تلك التهمة فقط بقلب مجروح وتخاطب الأمهات الفرنسيات الحاضرات بما يدفع عنها تلك التهمة التي سقطت فوراً، لكن سقوط تلك التهمة لم يكن كافياً لإنقاذ الملكة المترفة من تهم الفساد المالي، فانتهت رقبتها الجميلة مقطوعة تحت حد شفرة المقصلة.

المقصود من كل ذلك.. الثورات الناجحة لا تحققها الغوغائية المنفلتة، بل هي خلاصة الوعي التام بالإنسانية والتحرر من كل ما يقيد تلك الإنسانية وكرامتها، وفي زمن تساوى فيه المثقف مع الأحمق بفضل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، فإن «الغوغائية» وجدت لها فضاءات واسعة ومساحات شاسعة تصيح وتصرخ وتثير الضجيج فيها فينتشر الدجل والشعوذة كحقائق مقدسة، وهو ما يتطلب في زمننا «الأكثر صعوبة» مزيداً من ضبط النفس وكثيراً من التفكير بابتكار لنشر الوعي والمعرفة. ليس المطلوب ثورات بالمعنى التقليدي بقدر ما هي ثورة معرفية واعية تدرك حجم الإنسان الكامن فينا جميعاً.

* كاتب أردني مقيم في بلجيكا