رغم العيوب والنقائص التي شابت الثورة الأميركية، فإنها أطلقت اندفاعاً نحو الديمقراطية والمساواة السياسية التي شكّلت تاريخنا وما زالت تشكله حتى الوقت الحاضر. وهذا الاندفاع في حالة توتر مع الدستور الذي لم يشكل هيكل الديمقراطية الأميركية فحسب، بل يُعتقد أنه كُتب ليقيدها.

أكتب أحياناً عن الحاجة إلى إصلاح هياكل طريقة الحكم الأميركية، من المجمّع الانتخابي إلى مجلس الشيوخ نفسه. والرد الآني والواضح من القراء هو السؤال عن السبب. فعلى كل حال، يجعل ارتفاع الحائل أمام التعديل الدستوري حدوثه شبه مستحيل. وعلى سبيل المثال، لا فرصةَ تقريباً لأن تصوت أغلبية الثلثين في الكونجرس أو أغلبية ثلاثة أرباع الولايات على المطالبة بإجراء انتخابات شعبية مباشرة لاختيار الرئيس ونائبه.

والفقرة الأخيرة من المادة الخامسة من الدستور تنص على أن «لا حرمان لولاية، دون موافقتها، من حق التصويت المتساوي للولايات». وهذه المادة عقبة كؤود لإنهاء التشوهات الناتجة عن التمثيل المتساوي للولايات في مجلس الشيوخ. ومن الصعب بالمثل، إن لم يكن مستحيلاً، تخيل العراقيل الكثيرة أمام إصلاح ما هو غير مكتوب في النظام السياسي الأميركي. فسلطة المحكمة العليا في المراجعة القضائية غير الموجودة في الدستور لا يمكن المساس بها فعلياً. ونظام الحزبين مقاوم بالمثل للتغيير ببساطة لأن المشرّعين الذين يشغلون مقاعد في الكونجرس ستتعين عليهم الموافقة على تغيير جذري للخريطة التي يعملون وفقها.

نعم، احتمالات إحداث إصلاح جدي منخفضة لدرجة انعدامها في الوقت الحالي وفي المستقبل المنظور، لكني ما زلت اعتقد أن القضية تستحق الجدل بشأنها. ويجب القول إنني استمد إلهامي هنا من المفكر السياسي روبرت دال الذي امتد مشواره المؤثر واللامع عبر القسط الأكبر من القرن العشرين.

وكان دال منشغلا بالمثال الديمقراطي والآليات الفعلية للديمقراطية والبون العميق بين الأمرين حتى في أكثر الدول الديمقراطية نضجاً. وقد تحدث في كتابه الصادر عام 1998، وهو بعنوان «في الديمقراطية»، قائلاً: «ربما في جميع المنظمات، في كل مكان تقريباً، هناك بعض المساحة لبعض الديمقراطية وفي كل الدول الديمقراطية تقريباً هناك مساحة معتبرة للمزيد من الديمقراطية».

وطبّق الأميركي دال هذه المقولةَ على بلاده وكتب في مطلع الألفية الجديدة نقداً مطولاً لمؤسساتنا الديمقراطية بعنوان «ما مدى ديمقراطية الدستور الأميركي؟»، وكان دال في نهايات عقده التاسع من العمر، ولم يكن يعتقد حينذاك أن ثمة في الأفق تغيير دستوري من أي نوع. وكتب يقول: «تقودني تأملاتي إلى تشاؤم محسوب عن احتمالات إضفاء طابع ديمقراطي أكبر على الدستور الأميركي. التغيرات التي قد تكون مرغوبةً من وجهة النظر الديمقراطية تبدو لي قليلةَ فرص التحقق في الأجل غير المنظور مستقبلا». لكن دال لم يتقاعس عن إقامة الحجة في هذا الشأن. وليس هذا من أجل تغيير الدستور بل من أجل «التغيير في الطريقة التي ننظر بها إلى دستورنا». ومعظم الأميركيين يبجلون الدستور.

وقلة من الناس تريد تغييراً أساسياً. لكن الدستور ليس نصاً مقدساً محفوراً على ألواح من الحجر. وكتب دال يقول: «الآباء المؤسسون لم يكونوا فلاسفةً يبحثون عن وصف لنظام مثالي. وربما لا يتعين علينا أن نظل ممنونين لهم إلى الأبد حتى إذا كانوا فلاسفة فازوا بثقة ممارسة سلطة الحكم. لقد كانوا رجالاً عمليين يحرصون على إقامة حكومة قومية أقوى. ولأنهم كانوا رجالاً عمليين قاموا بمواءمات». والنظر إلى الآباء المؤسسين باعتبارهم رجالاً عمليين كانوا يتخذون خيارات عملية يجب أن يقودنا إلى التفكير في الدستور بطريقة عملية. فهل يخدمنا جيداً؟ وهل يلبي المعايير الديمقراطية للوقت الحالي؟ وهل يساعدنا- كما سأل دال- في «المحافظة على النظام الديمقراطي وحماية الحقوق الديمقراطية الأساسية، ويضمن النزاهة الديمقراطية وسط الأميركيين، ويشجع على تشكيل اتفاق آراء ديمقراطي، ويقيم حكومة ديمقراطية فاعلة في حل المشكلات؟».

والقول بأن الولايات المتحدة في الوقت الحالي يجب أن تكون أكثر ديمقراطيةً، يعني أنها يجب أن تتمتع بتمثيل نيابي أوسع ومساواة سياسية أكبر. وكل هذا يعني أنني لا أكتب عن إصلاح هيكلي، لأني أعتقد أنه سيحدث في الإطار الزمني لحياتي رغم أن لا أحد يعلم ما يحمله المستقبل. بل أكتب عن إصلاح هيكلي لأنني، مثل دال، أريد أن أوسع -أنا والقراء أيضاً- نطاق الأفكار عن الديمقراطية الأميركية التي كانت وما زالت أكبر من الدستور. ومن فوائد هذا الجدل أيضاً أنه يوضح في أجلى صورة خطوط الصراع السياسي. ولا يمكنني تجاهل أن هناك أميركيين لا يؤمنون بالمساواة السياسية والمثال الديمقراطي، وأميركيون رؤيتهم ضيقة ومحدودة عن الحرية والاختيار. والسجال بشأن الإصلاح قد يجعل هذه الآراء تخرج من مكامنها إلى العلن في نطاق الجدل العام. إنني مغرم بعبارة إنجيل مرقس التي جاء فيها: «السبت، إنما جعل لأجل الإنسان، لا الإنسان من أجل السبت». أعتقد أنها عبارة تسجل حقيقة أساسية، وهي أن قوانينا ومؤسساتنا وُضعت لنا ولازدهارنا وليس لذاتها. وإذا لم تَقُم هذه القوانين والمؤسسات بعملها، وإذا كانت تقيد طموحاتِنا أو تنتهك شعورَنا بالعدل، فدور أشخاص مثلي هو أن يثيروا الجدل لتحقيق، ولو القليل من، التغيير.

*صحفي أميركي

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»

Canonical URL: https://www.nytimes.com/2021/10/29/opinion/democracy-madison-robert-dahl.html