يبدو مفهوم بناء الثقة مجرد تعبير أخلاقي، يهدف إلى تعزيز حضور القيم السامية المشتركة بين مجموعات سكانية تعاني من الخلافات، أو بين حكومات متنافسة أو متصارعة، أو بين شعوب فقدت الثقة بحكوماتها.. وهذا التعبير الأخلاقي يشمل كل العلاقات الإنسانية الفردية والاجتماعية، فحين يفقد أحدُ الفريقين ثقتَه بالآخر تنهار العلاقة بينهما، وسيؤدي هذا الانهيار إلى صراعات قد تصل إلى الحدود الدموية.
لكن مفهوم بناء الثقة تطوَّرَ في البعد السياسي، وعقدت له مؤتمرات كبرى، وباتت له أدبيات شارك فيها مثقفون ومسؤولون كبار، وصار مقدمةً أساسيةً لحل الخلافات الدولية. وفي عام 2006 عقدت الأمم المتحدة مؤتمراً دولياً في فيينَّا حول «بناء الثقة في الحكومة». ويمكن اختصار التعريفات السياسية التي اعتمدتها الأمم المتحدة بالقول «إن الثقة السياسية هي توافق حول الأولويات والاختلافات والقيم». واعتبر بعض المفكرين أن تحديد الحد الأقصى من المصلحة العامة، هو الأساس الذي تبنى عليه الثقة، واعتبر بعضهم أن الثقة هي كلمة السر في انتقال المجتمعات من حال إلى آخر.
وفي الحديث عن الثقة بين الحكومات والمعارضات يتحول انهيار الثقة إلى تهديد لبناء الدولة والمجتمع، حيث يصل الأمر إلى الاستعانة بالتدخل الأجنبي عسكرياً.
وكان من الطبيعي أن تجعل الأممُ المتحدةُ مفهومَ بناء الثقة أساساً للحل السياسي للقضية السورية، وقد اعتُبر مدخلاً رئيساً للحل في القرار 2254.
ويواكب مفهوم بناء الثقة تعبير يشير إلى «النوايا الحسنة»، بحيث تعبّر أطراف الصراع عن قبولها الضمني بالحل وتوجهها إليه عبر الطرق السياسية والسلمية.
لكن كل المؤتمرات التي عقدت لمناقشة القضية السورية أخفقت في التوصل إلى استعادة الثقة بين أطراف الصراع السوري، ولم تكن المصالحات التي عُقدت في بعض المناطق الساخنة نتاج بناء الثقة، إذ جاءت خياراً بين الإذعان أو التهجير القسري.
ويبدو السؤال الأهم أمام الحل السياسي: هل يمكن بناء الثقة بين الحكومة السورية وبين المعارضات المتعددة التي تعاني هي أيضاً من انهدام الثقة بين مكوناتها؟ وإذا كان هذا البناء ممكناً، فما الخطوات التي ينبغي التدرج بها لبناء الأسس التي ينهض عليها هذا البناء؟
لقد عطّل فقدان الثقة كل الدعوات إلى بدء عملية الإعمار، وإلى عودة اللاجئين، وإلى إعادة العلاقات مع المجتمع الدولي.. وساهم فقدان الثقة في المعاناة الاقتصادية التي تواجهها سوريا اليوم. ولو أن الثقة متوفرة لتمكّن السوريون في المَهاجر والمغترب من مشاركة متينة في إعادة البناء وفي ترميم ما تهدّم، فضلاً عن مشاركات هامة من الدول العربية المقتدرة، والدول الصديقة للشعب السوري.. لكن ذلك لن يحدث دون بناء جاد للثقة، وهذا ما يستدعي انعقاد مؤتمر دولي جديد، تستعيد فيه «مجموعةُ أصدقاء الشعب السوري» حضورَها وسعيَها الجاد لبناء الثقة بين أطراف الصراع السوري، بوصفه فاتحةَ تنفيذ القرار الدولي 2254.
وما دامت الثقة تعني توافقاً وقبولاً غير قسري بقيم مشتركة، فلابد من تقديم تنازلات ممكنة من كل الأطراف، لتحقيق المصلحة العليا للدولة والمجتمع.
وثمة قضايا قابلة للحل عبر التفاوض، مثل القضية الكردية في الشمال السوري الشرقي، والأوضاع في إدلب وأرياف حلب وحماه واللاذقية، وفي مناطق النفوذ التركي.. ولن يكون الاقتتال وطوفان الدم حلاً عقلانياً عادلاً ولا طريقاً للمستقبل. وأخطر ما يمكن أن يعاني منه السوريون هو انعدام الثقة بالأمم المتحدة ذاتها، أمام عجزها الراهن عن إنقاذ الشعب السوري من هذه المحنة الكبرى التي انعكست على المنطقة كلها، بل على العالم كله عبر اختلاف مواقفه، وليت الدول العربية الشقيقة تتولى الدعوة إلى مؤتمر دولي لبناء الثقة في سوريا ووضع رؤية عملية لتنفيذ القرار 2254.


وزير الثقافة السوري السابق