لا تهتموا كثيراً بصراخ الغضب من باريس أو الاستياء من بكين، فإحباط أستراليا لتعاقد بقيمة 65 مليار دولار لشراء غواصات فرنسية في سبيل تعزيز العلاقات مع أميركا والمملكة المتحدة، أمر مهم، لكنه أيضاً لا يمثل زلزالاً. فالأهمية الحقيقية للانتكاسة هي أنها تؤكد المشكلات الراسخة منذ فترة طويلة في التحالفات الاقتصادية والأمنية المهيمنة على منطقة المحيط الهادئ وآسيا، وقد تفتح الباب لعدد قليل من الفرص.

هناك مشكلات كثيرة واجهت مشروعاً فازت به فرنسا عام 2016 لبناء أسطول غواصات تعمل بالديزل لصالح أستراليا. وعلى مدار سنوات، شكا سياسيون أستراليون من الكلفة الكبيرة للمشروع ومن التأخّر في إنجازه. وأثناء هذه الفترة تفاقمت العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية بين أستراليا والصين كثيراً. وخيبة أمل أستراليا من الصفقة تصاعدت كثيراً لدرجة أنها أعلنت قبل بضعة أشهر أنها ستصلِح القوارب الأقدم لإطالة عمرها إلى حين وصول الغواصات الجديدة. وبالطبع لا يعني هذا تصويتاً بالثقة.. لكن هل كان هناك مَن ينصت في باريس؟

أعلن وزير الخارجية الفرنسي في الأيام القليلة الماضية أن بلاده «طُعنت في الظهر» بخسارتها العَقد. وقبل تصريحه بساعات، كان رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون والرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون قد أعلنوا أن كانبيرا ستحصل على غواصات نووية من الولايات المتحدة وبريطانيا، في قفزة تكنولوجية كبيرة للبلاد لقيّت استهجاناً سريعاً من الصين. وتم الاحتفاظ بالصفقة طي الكتمان، ولذا كان لإعلانها صدى واسع. فحتى يونيو الماضي، كانت فرنسا تعتقد فيما يبدو أن الأمور تمضي بشكل لا بأس به إلى حد ما.

فقد التقط الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون صورةً وديةً مع موريسون أثناء زيارة هذا الأخير لفرنسا. وعلاقات كانبيرا بواشنطن، وهي وثيقة منذ 80 عاماً، تتزايد رسوخاً. وتميل الصين نحو النظر إلى أستراليا باعتبارها وكيلا عن الولايات المتحدة، لكن احتواءَها أسهل بكثير لأن اقتصادها أصغر بكثير جداً. وأستراليا أكثر اعتماداً على مشتريات الصين من النبيذ وخدمات التعليم والمعادن.. وهي كلاعب استراتيجي، تتدخل على أفضل الأحوال. وبإضافة تعزيز الصين لقدراتها العسكرية في بحر الصين الجنوبي وظهور الشقاقات مع الولايات المتحدة، يمكننا ملاحظة ذلك القلق الذي ينتاب أستراليا. وفرنسا محقة في شعورها بخيبة الأمل لكن من المشكوك فيه أنها شعرت بصدمة. وربما شعرت فرنسا أن تذمر كانبيرا ليس إلا جزءاً لا يتجزأ من السياسة الداخلية. ولو كانت هناك أي شكوك حول تعرّض الصفقة للخطر، فربما بدد هذه الشكوك تعيين بيتر داتن وزيراً لدفاع أستراليا في مارس الماضي.

فقد صنع داتن، وهو ضابط شرطة سابق، سمعتَه باعتباره وزيراً مناهضاً للهجرة، ووصل إلى الوظيفة الجديدة حاملاً سمعته كصاحب موقف ثقافي صريح مؤيد بلا مواربة للأميركيين في معظم القضايا ومنتقد شرس للصين. وكان يجب أن يرى الفرنسيون في داتن تحذيراً صارخاً. وقد مرّت العلاقات بين كانبيرا وواشنطن بقمم وسفوح، لكنها ظلّت على الدوام في إطار تبعية أستراليا وخوفها المرضي من تخلي قوة عظمى عنها. واستخدام التكنولوجيا الأميركية في التحول إلى النهج النووي في صناعة الدفاع يمثل قفزة، لكنها ليست بحجم القفزة التي حدثت في ديسمبر عام 1941. فمع تقدم القوات اليابانية في شبه جزيرة الملايو نحو سنغافورة، أعلن رئيس الوزراء الأسترالي في ذاك الوقت، جون كورتين، «دون قيود من أي نوع، أوضِّحُ تماماً أن أستراليا تنظر إلى أميركا متحررةً من أي ألم كذاك الذي يشوب علاقاتنا التقليدية أو قرابتنا مع بريطانيا». وبريطانيا تمثل عنصراً مثيراً للاهتمام في هذه القصة.

فسنغافورة بها عدد كبير من ممن يتذكرون الحكم البريطاني وإخفاقاته. فبعد طرد اليابانيين لبريطانيا، أصبحت المملكة المتحدة منقطعة الصلة تقريباً بتحقيق الأمن في آسيا والمحيط الهادئ. وتلكأ الوجود البريطاني قليلاً بعد الحرب، لكن فقط للقيام بدور القائم بالأعمال وكجزء من ترتيبات حماية ماليزيا وسنغافورة. وبعد «بريكسيت»، تسعى بريطانيا إلى دور في آسيا. فهل يكون التعاون مع الولايات المتحدة والمستعمرات السابقة، مثل أستراليا، هو الطريق الصحيح للقيام بذلك؟ من السابق لأوانه أن نقول إن دراما الغواصات تقوّض السلام الإقليمي، لكن ما حدث يوحي بأن الكل ليسوا مطمئنين لاستدامة السلام. ومن المثير للسخرية أن أستراليا اختارت مناقصةَ فرنسا وليس مناقصةً منافِسةً من اليابان، وهذا يرجع في جانب منه على الأقل إلى خشيتها من رد فعل الصين. فقد اعتقد الأستراليون أن اختيار اليابان ربما يدعم العلاقات الإقليمية، لكن من الأفضل ألا يثيروا غضب أكبر زبون لصادراتهم (أي الصين). وربما أثار هذا النزاع الدبلوماسي الأحدث بعض الابتسامات في طوكيو، على الأقل.

*كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»