منذ أسابيع والسؤال الأبرز الذي يدور في أروقة وسائل الإعلام الإقليمية والعالمية، وعلى ألسنة المحللين السياسيين هو: «لماذا انسحبت الولايات المتحدة الأميركية من أفغانستان بهذه السرعة وهذه الطريقة؟». الطروحات التي تناولت الإجابة على هذا السؤال أكبر من أن يمكن رصدها في مقالة، فكل وسيلة إعلامية أو محلل سياسي أو مهتم بالشؤون الدولية ينظر للحدث من خلال عدسة الواقع الذي يعيشه.

الصينيون، على سبيل المثال، يعتقدون أن الخروج الأميركي المفاجئ والسريع إنما هو مؤامرة أميركية تهدف إلى خلق جيوب إرهابية في الأراضي الأفغانية من أجل إشغال الصين وجرّها إلى مستنقع مواجهة لا تنتهي، تبطّيء قليلاً من اندفاعها المتعاظم نحو قيادة العالم على المستوى الاقتصادي والمالي. الروس أيضاً يقولون إن الخروج الأميركي يستهدف في الأساس دولتهم من خلال خلق جيوب غير مستقرة جنوب بلادهم، قد تقودهم للتورط من جديد في حالة شبيهة لما حدث في العام 1979.

والإيرانيون لا يعرفون بالضبط ماذا يريد الأميركيون من وراء هذا الانسحاب، فمرة يقولون إن الأميركيين يريدون الضغط على الحدود الشرقية الإيرانية بمجاميع سنية مسلحة ذات هوى إيديولوجي، ومرة يظنون أن هذا الانسحاب إنما جاء بهدف توحيد الجهود الأميركية في المنطقة للضغط على إيران فيما يتعلق بمفاوضات الملف النووي. آراء وتحليلات ونقاشات سياسية لا تنتهي، وكلها تحسن الظن في «عقلية المؤامرة الأميركية» وتعظّم من القدرة الأميركية على قراءة المستقبل، وتحترم «ماكينة التخطيط» في واشنطن. ولا يوجد من بينها ما يصنع تياراً جديداً في الرأي يقول إن ما حصل إنما هو فشل أميركي كبير، بسبب تخبط السياسة الخارجية الأميركية الجديدة، وعدم قدرة «الحزب الديمقراطي» على فصل ما يحدث في داخل أميركا عمّا يحدث خارجها. وفي تقديري، أنا الرجل العربي الذي يبعد عن مدينة كابول آلاف الكيلومترات، أن ما جعل أميركا تنسحب بهذا الشكل الخادش لهيبة النسر الأصلع لا يمكن اختصاره في سبب واحد، وفي الوقت نفسه لا يمكن أن نقول عنه إنه ذو دافع مؤامراتي خالص ولا ذو دافع ذاتي خالص، وإنما خليط بين الدافعين.

أول الأسباب في نظري، هو تغير المزاج الشعبي الأميركي خلال العقدين الماضيين وتحوله من النظرة الأبوية للعالم بسبب النصر في الحرب العالمية الثانية، إلى الغارق في مشاكله اليومية، ولطالما كان الحزب «الديمقراطي» عبر عقود متحدثاً باسم المزاج العام في الولايات المتحدة.

وثانيها، هو الفشل في اختراق المنظومة الأفغانية وتحويلها إلى دولة تابعة خلال العشرين سنة الماضية.

وثالثها، تغيير المنهج الأميركي (الديمقراطي خصوصاً) في التعامل مع الجماعات المسلحة والمتطرفة حول العالم، فبدلاً من مواجهتها والدخول معها في صراعات طويلة بحجة تصادم معتقداتها مع القيم الأميركية، صار التوجه الحالي هو العمل معها بما يحقق المصالح الأميركية. ولعل في رفع واشنطن جماعة «الحوثي» من قائمة الإرهاب، وغزل السفارة الأميركية الدائم للميليشيات الشيعية في العراق، وفتح خطوط الاتصال مع العديد من الجماعات المتشددة حول العالم ما يرجح هذا الرأي. أميركا فشلت في أفغانستان وارتكبت أخطاءً جمّة في خروجها المرتبك من هناك.

هذا أمر لا شك فيه، لكن سياستها في إدارة صراعات المنطقة تغيرت أيضاً أو ستتغير قريباً، وهذا أمر لابد من أخذه بعين الاعتبار بالنسبة لدول المنطقة ودول الخليج تحديداً.

* كاتب سعودي