عادةً ما ترافقُ الأحداثَ الكبرى مبالغاتٌ من أجل إضفاء المزيد من الإثارة على هذه الأحداث، إما للتغطية على قضايا أهم أو لتبرير إجراء معين يهدف إلى حرف الأنظار وتقديم معلومات مضللة أو مبالغ فيها.

ولا تخرج التطورات الحالية في أفغانستان وما رافقها من انسحاب للقوات الأميركية، وسيطرة «طالبان» على مقاليد الأمور عن هذا النطاق. في هذا الجانب زخرت وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي بمبالغات كبيرة حول حجم الثروات الطبيعية في أفغانستان، مستنتجةً بأنه سيكون هناك صراع دولي، وبالأخص بين الولايات المتحدة والصين، حول ثروات المعادن الأفغانية! مع التركيز على معدني النحاس والليثيوم اللذين يعتبران حيويين للصناعات التكنولوجية ومنشآت الطاقة النظيفة وبطاريات المركبات الكهربائية، حيث تحمل كل هذه القطاعات آفاقاً مستقبليةً واعدةً لاقتصادات كافة البلدان.

الاستنتاج حول أهمية هذين المعدنين صحيح تماماً، فالطلب عليهما في الأسواق العالمية يرتفع باستمرار مع التوسع في إقامة محطات الطاقة النظيفة، بما فيها الطاقة الشمسية، وكذلك الانتشار السريع للسيارات الكهربائية، حيث يتوقع البنك الدولي أن يتضاعف الطلب على الليثيوم خمس مرات في غضون السنوات الثلاثين القادمة، أي حتى عام 2050.

إلا أن غير الصحيح هو التقييم المبالغ فيه لثروات أفغانستان من المعدنين، وغيرهما من المعادن، حيث ظهر الأمر وكأنه بدون ثروات المعادن الأفغانية سوف لن يكون هناك تقدم تكنولوجي ولا طاقة نظيفة! علماً بأن التقدم التكنولوجي لمصادر الطاقة المتجددة استمر في العقديين الماضيين، وتطور دون الحاجة للمعادن الأفغانية. والصحيح أيضاً أن أراضي أفغانستان تحتوي على ثروات طبيعية كبيرة قدَّرتها بعض الأوساط الأفغانية بتريليون دولار وبعض الأوساط الأميركية بثلاثة تريليونات دولار، علماً بأن الحرب الأفغانية كلفت الخزانة الأميركية تريليوني دولار.

وعلى افتراض أن ذلك صحيح، فإنه لا يمكن أن يلعب دوراً حاسماً في الصراع الدولي للأسباب التالية: أولاً: هناك دول ومناطق أخرى في العالم تحتوي أراضيها على كميات هائلة من النحاس والليثيوم والفضة والزنك وغيرها من المعادن، وبما يتجاوز مثيلاتها في أفغانستان، ولم تتعرض للصراعات الناجمة عن منافسة الدول الكبرى.

فدول أميركا اللاتينية وأفريقية وآسيا تحتوي أراضيها على احتياطيات كبيرة من المعادن الطبيعية، فشيلي على سبيل المثال تعتبر أكبر دولة منتجة للنحاس في العالم، تليها الصين وبيرو والولايات المتحدة والكونغو.

أما الليثيوم فإن المكسيك تأتي على رأس قائمة الدول المنتجة له، تليها الصين وأستراليا، ويتوفر هذا المعدن بكثافة في كندا والكونغو وروسيا، كما أن 61% من احتياطياته موجودة في أميركا اللاتينية. أما في العالم العربي، فيوجد في السودان واحد من أكبر مناجم النحاس في العالم، وكذلك هناك احتياطيات مهمة في سلطنة عمان.

هذه الحقائق لا تنفي أهمية الثروات الطبيعية لأفغانستان، لكنها تضعها في موقعها المناسب بدون مبالغات ولا إثارة إعلامية.ثانياً: لا نعتقد بأن الشركات العالمية سوف تتكالب على الاستثمار في استخراج المعادن في أفغانستان، وذلك بسبب طبيعة نظام «طالبان» من جهة، والغياب التام للأنظمة والتشريعات التي تحمي الاستثمارات الأجنبية من جهة أخرى. فهذه الشركات تتوفر لديها بدائل أفضل في العديد من مناطق العالم التي ذكرناها، والولايات المتحدة خير من يعرف ذلك، مما يبرر خروجها المكلف من بلد ينتظره الكثير من عدم الاستقرار المنفر للاستثمارات الأجنبية. أما فيما يتعلق بالمنافسة الصينية، فإن ما يهم الصين بدرجة أساسية ليس المعادن التي ربما تأتي في المرتبة الثانية، وإنما موقع أفغانستان كممر لوجستي رئيسي لمشروعها العملاق «الحزام والطريق»، والذي من خلاله ستربط الشرق بالغرب، ومع ذلك فإنه في هذه الحالة أيضاً تتوفر للصين بدائل في البلدان المجاورة لأفغانستان، كطاجيكستان وتركمانستان، حيث لن يختلف الأمر كثيراً. أما لماذا هذه المبالغات، فذلك حديث آخر لا علاقة له بالاقتصاد والثروات، إذ ما يهمنا هنا هو وضع الأمور الاقتصادية في نصابها الصحيح بعيداً عن التهويل والإثارة.

*مستشار وخبير اقتصادي