على مدى الأعوام العشرة الماضية كانت «حركة النهضة» لاعبة أو متلاعبة أساسية في الحكم التونسي، أولاً تحت غطاء «الترويكا» التي شكّلت مع حزبين آخرين ضعيفين، ثم عبر «تسوية» ثنائية بين الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي الذي أسس حزب «نداء تونس» وزعيم «النهضة» راشد الغنوشي، وأخيراً باستغلال ضعف الأحزاب الأخرى لتشكيل تحالف سيطر على الحكومة والبرلمان. في المراحل الثلاث كانت الحركة «الإخوانية» تحرص على إظهار نفسها كـ«حزب مدني»، أي متميّز عن الأحزاب الدينية، وبالتالي عن جماعة «الإخوان المسلمين»، إذ كان وما يزال يهمّها أن تحظى بقبول غربي ثابت يؤهّلها لتصدّر النظام، بل اعتقدت أنها نجحت في إقناع التونسيين والعرب والمسلمين بأنها تمكّنت من بناء صيغة حكم فريدة لتعايش مستقرّ بين الإسلاميين والآخرين على اختلاف توصيفاتهم. لكن ثقة التونسيين بها تلاشت. 
انتهت المرحلة الأولى بعد انكشاف اختراقات «النهضة» في مفاصل الدولة وتداعيات إطلاقها سجناء الجماعات المتطرّفة ومجاملتها لقياداتها، واضطرّ طرفا «الترويكا» الآخران («المؤتمر من أجل الجمهورية» و«التكتل الديمقراطي») للرضوخ للاحتجاجات المطالبة بإسقاط حكومة «النهضوي» علي العريّض، فكُلّفت شخصية مستقلّة (مهدي جمعة) برئاسة حكومة انتقالية، وانطلق حوار وطني في خطوة بدت بمثابة حماية لـ«النهضة». في المرحلة الثانية كان الغنوشي قد استوعب الدرس فتخلّى عن حليفيه السابقين ليمضي إلى تسوية مع السبسي الذي كان يشكّل نقطة التقاء القوى الوسطية والدولة العميقة بجناحيها المدني والأمني، وانتخب السبسي رئيساً كما فاز حزبه بأكبر تكتل برلماني، لكنه سرعان ما راح يتفكّك، مما أتاح للنهضة أن تفعّل موقعها كثاني أكبر حزب لزعزعة استقرار الحكومة ثم سحبها ورئيسها (يوسف الشاهد) من تحت عباءة السبسي. 
أما في المرحلة الثالثة، الحالية، وبعد وفاة السبسي، فتردّدت «النهضة» في ترشيح الغنوشي للرئاسة، إذ كانت شعبيتها في تناقص مستمر، رغم حصولها على أكبر تكتل برلماني لكن بمقاعد أقلّ. لذلك أيّدت مضطرّةً انتخاب قيس سعيّد رئيساً، موقنةً بأنها ستتمكّن من احتوائه، فهو مستقلّ ولا يستند إلى أي حزب أو تكتل. وبما أن الدستور يمنح معظم الصلاحيات للحكومة، فإن «النهضة» اتخذته وسيلةً لقيادة الحكم من خلال التحكّم بإدارة الحكومة. ورغم أن الرئيس هو مَن يسمّي رئيس الحكومة، فقد أجهضت «النهضة» خلال أقلّ من عامين حكومتَه الأولى (برئاسة الحبيب الجملي) قبل أن تبدأ العمل، وأسقطت الثانية (برئاسة الياس الفخفاخ). وصادرت الثالثة فارضةً على رئيسها هشام المشيشي إقالةَ وزراء اقترحهم الرئيس واستبدالهم بآخرين ينتمون إلى «النهضة» أو لحلفائها في البرلمان.
نتج عن هذه الأدوار التي لعبتها «النهضة» شللٌ في الأداء الحكومي وتعجيزٌ للدولة بالتزامن مع تفاقم الأزمة الاقتصادية وإفساد الجماعات الإرهابية للمواسم السياحية، إلى أن أدّى سوء إدارة أزمة تفشّي وباء كورونا إلى تفجّر الغضب الشعبي مستهدفاً خصوصاً «النهضة» بإحراق مقارها و«حكومتها». لم يبقَ أمام الرئيس سعيّد سوى أن يفعّل الدستور بدوره، مضطرّاً إلى «إجراءات استثنائية» لوقف العبث البرلماني الذي بلغ أقصاه. لا بدّ للرئيس أن يُظهر خريطة طريق للخروج من الأزمة، لكن أهم ما حقّقته قراراته حتى الآن أنها هزّت زعامة الغنوشي ووضعت «النهضة» أمام استحقاق الانشقاقات، لذا فهي تعترف الآن بضرورة مراجعة سياساتها وخياراتها بما يتناسب ورسائل الشارع التونسي. وبقي أن تتطابق الأفعال مع الأقوال. 

عبدالوهاب بدرخان

كاتب ومحلل سياسي- لندن