ثقافة الطعام بين الشعوب هي إحدى أدوات القياس في علوم الاجتماع، بل وصارت أداة قياس في علم الاجتماع السياسي أيضاً. شخصياً، حين أتابع فيلماً تاريخياً لأي مجموعة إنسانية في أي جغرافيا، أنتبه كثيراً لمشاهد الطعام وتقديمه مثلما أفعل حين أقرأ مادة تاريخية قديمة، وأحاول معرفة أنماط السلوك والمعيشة في ذلك الزمن ومن ضمنها أنواع الطعام والطبايخ. كانت كلمة «الفالوذج» أكثر المفردات مروراً في ذاكرة جيلي ومن سبقه عبر تاريخ وتراث العرب والمسلمين، وكذلك «الثريد» الذي كان يهشمه عمرو بن عبد مناف بيديه للضيوف والسابلة فعرفته العرب باسم «هاشم» جد الهاشميين، ولولا الثريد ربما كان اسمهم «بنو عمرو» مثلاً.

في ذلك السياق، كنت ابتهجت في العصر الكوروني الأول «حقبة الحظر الكامل»، وقد وقع بين يدي كتاب «الطبيخ للبغدادي» وهو كتاب فيه وصف وشرح ومقادير صنوف الطبيخ في العصر العباسي المتأخر، وقد ألفه طباخ قصر الخلافة نفسه محمد بن حسن البغدادي عام 1226 ميلادية، والجميل بالنسخة المحققة التي وصلتني أن من حققها هو الزعيم السياسي والشاعر الأديب الدمشقي فخري البارودي، أحد أبطال الاستقلال السوري وعضو البرلمان والشاعر الذي أنشدنا له صغاراً «بلاد العرب أوطاني»، وفي الكتاب الذي حوى صنوف «المطبخ البغدادي العباسي» من (سكباج وإبراهيمية وحماضية وريباسة ومغمومة)، فإن زعيم الشام وظريفها البارودي أضاف ملحقاً بصنوف المطبخ الدمشقي في زمانه «أول القرن العشرين» من طبخات مثل (الباشا وعساكره وداود باشا وشيخ المحشي وحراق اصبعه..).

ثقافة الطبيخ تجمع الشعوب أكثر ما تفرقها عناصر العداوة الأخرى، فحوض المتوسط يجمعه زيت الزيتون حيث تتنافس على جودته شعوب المتوسط. ولعل أكثر ما أحبه في أي مطعم إيطالي محترم..تلك المقبلات التي تتكون من الخبز الشهي وتغميسه في صحن صغير فيه زيت زيتون طلياني متوسطي وخل بلسميك من كروم ايطالية متوسطية. وفي كل مرة كاد أكتفي شبعاً بغموس الخبز بالزيت والخل وأتذكر كذلك بيت بشار بن برد الشهير: (رباب ربة البيت تصب الخل بالزيت).

وتلك إشارة مبكرة على أن «الكوزين العباسي» كان سباقاً بحكاية الخل مع الزيت وهذا واضح من مطبخ «رباب» الذي يعكس ثقافة شعبية بغدادية صورها بشار بن برد «الأعمى» في شعر ظريف. والطليان -الله يسلمهم- كونوا خبرة تراكمية ومعرفية في فنون المطبخ ضمن مصادر الطبيعة الوافرة لديهم، ومعرفة جيدة بمتطلبات الجهاز الهضمي. لذا كانت عبقرية الجنوب الإيطالي بابتكار الليمون تشيللو، كمشروب يقدم بارداً بأقداح صغيرة تساعد على الهضم بعد وجبة دسمة وثقيلة، تماماً مثل فنجان القهوة السادة العربية بعد المنسف والكبسة. كما أنه وحين يتفاخر البعض في المطاعم تلك بعروض زيت الزيتون الطلياني وأنواعه أتذكر كتاب يوميات فتح الله الصايغ الحلبي عام (1805-1810) حين كان يتاجر مع أقرانه من بلاد الشام ويحملون بضائع المشرق على مراكبهم من موانئ صيدا وصور وبيروت فيصدرون حسب الطلب منتجات بعلبك وعجلون إلى جنوة في إيطاليا عبر البحر الذي يجمعنا...قبل أن تبتلعنا امتدادات التصحر الذهني التي انتشرت وسادت فأبادت. وقصة فتح الله تلك ويومياته حديث آخر له مقامه ومقاله وكل عام والجميع بخير.

* كاتب أردني مقيم في بلجيكا