ربما يُذكر لقمة بروكسل في 24 و25 يونيو الماضي أنها وضعت مسألة الحوار مع روسيا على جدول أعمال الاتحاد الأوروبي للمرة الأولى منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية عام 2014.

ولا يُقلل عدم اتفاق دول الاتحاد على المبادرة الألمانية-الفرنسية بشأن إجراء حوار مع روسيا أهمية ما حدث في القمة. التحولات الكبيرة في العلاقات الدولية تبدأ، في كثير من الأحيان، بخطوات صغيرة. ولكن التفاعلات التي حدثت في قمة بروكسل بشأن هذه المبادرة تشي بأن التطور الذي بدأ قد لا يكون صغيراً. فقد أظهرت هذه التفاعلات أن أغلبية الدول الأعضاء في الاتحاد إما تؤيد مبادرة الحوار، أو تتخذ موقفًا وسطياً قد يكون انتظارياً من دون أن ترفضها. ولكن شرط الإجماع في اتخاذ القرارات يتيح لدولة واحدة تعطيل أية مبادرة. ولهذا، قد لا يكون مُبالغاً القول إن أقلية تخشى روسيا أحبطت مبادرة الحوار في الوقت الراهن. فقد اتخذت دول البلطيق الثلاث (لاتفيا وليتوانيا وإستونيا)، وبولندا وأوكرانيا والسويد الموقف الأكثر تشدَّدًا ضد مبدأ الحوار مع روسيا.
ويكتسب موقف دول البلطيق أهمية خاصة، لأن شبح «احتلال» روسي جديد ظل مُخَّيماً في أجوائها السياسية منذ استقلالها إثر تفكك الاتحاد السوفييتي السابق. وقد ازداد أثر هذا الشبح في سياساتها بعد سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم عام 2014. 
وبرغم أن الخوف من روسيا يبقى في إطار الهواجس السياسية المرتبطة بتاريخ قريب، فهو ليس منبت الصلة بالواقع من زاوية الجغرافيا السياسية. ولهذه الدول أهمية جيوبوليتيكية قصوى في العلاقات الأوروبية-الروسية سواء سلماً أو حرباً، وحين يحول الخوف من روسيا دون التفكير في فرص ممكنة لعلاقات سلمية تكون دول البلطيق جسراً لها، يُهيمن السيناريو الأسوأ على تفكير صانعي القرار فيها، فيحصره في التهديد المحتمل حتى إذا كان بعيداً. ووفق هذا السيناريو، الذي كان القائد السابق للقوات البرية البولندية «فالدمار سكيبشاك» أفضل من رسمه في مقالة نشرتها «ديفينس 24» في مارس الماضي، سيكون بحر البلطيق الميدان الرئيسي لأية مواجهة عسكرية بين روسيا والناتو.
ويتلخص هذا السيناريو في حدوث أزمة كبيرة، وخروجها عن نطاق السيطرة. وعندئذ تُحرَّك روسيا قوات جيشها السادس، وأسطولها الموجود في بحر البلطيق، سعياً لاحتلال لاتفيا وليتوانيا وإستونيا، في الوقت الذي ينقل الناتو قواته للدفاع عن أعضائه الثلاثة. ويدخل الطرفان في سباق، إذ تحتاج روسيا بين يومين وأربعة لاحتلال الدول الثلاث، ونقل المواجهة باتجاه الساحل البولندي.
ولا يُفكر الخائفون من روسيا في السيناريو الأفضل الذي يجعل بحر البلطيق جسراً للسلام، برغم وجود أساس أكثر واقعية له، وهو خط الغاز الطبيعي «السيل الشمالي» الذي يقترب العمل به من الانتهاء. يمتد هذا الخط تحت بحر البلطيق بطول أكثر من ألف ومائتي كيلومتر. وسيحمل نحو 55 مليار متر مكعب من الغاز الروسي إلى أوروبا سنوياً، وسينقل معه الدفء إلى ملايين المنازل في شتاء كل عام.
وليست صُدفةً أن تكون ألمانيا صاحبة مبادرة الحوار التي نوقشت في قمة بروكسل هي الطرف الأوروبي الرئيسي في مشروع «سيل الشمال»، وأن تنضم إليها فرنسا المشارِكة في هذا المشروع. وليس مُستبعداً بالتالي أن يؤدي بدء تشغيل خط الغاز إلى إقناع عدد متزايد من الدول التي ستستفيد منه بأن في السلام مع روسيا منافع لا يُستهان بها، فيُدفئ الغاز المنقول عبره الأجواء السياسية أيضاً.
لقد وُضعت مبادرة الحوار مع موسكو على أجندة الاتحاد الأوروبي في لحظة ربما تكون مواتية لتقدم متدرج نحو تفعيلها، بالتوازي مع تغير بدأ في السياسة الأميركية تجاه روسيا. فالعالم يحتاج جسوراً للسلام، لا ساحات حرب جديدة.