ذهبت إلى جاكارتا عام 2012 للمشاركة في مؤتمر عن «الإسلام الدولة والسياسات» بدعوة من «معهد السلام والديموقراطية» التابع لجامعة أوديانا، فسمعت من أساتذة العلوم الإنسانية هناك شهادات وإفادات مبهرة عن «التمازج بين الإسلام والثقافة التقليدية»، وعن الدولة «اللاعلمانية واللادينية التي تعطي الدين وزنه في الحياة وليس في السلطة»، التي يثبت وجودها على سطح الأرض في حد ذاته كذب مفهوم «الدولة الحارسة للدين»، و«قوة الدين في حد ذاته كي يحرس نفسه»، إذ إن الإسلام لم يدخل إلى إندونيسيا بالفتوحات إنما جاء في ركاب التجارة والتسامح وقوة الحجة وصفاء العقيدة، فدافع عن نفسه من دون وصاية من ملك أو سلطان أو أمير.
هناك تجد التدين ظاهراً في سلوك الناس وليس في أزيائهم وادعاءاتهم على رغم أن الشعب الإندونيسي لا يعتبر الإسلام أساساً لقيام الدولة، وفي الوقت ذاته لا يجد غضاضة في «تطبيق بعض أقاليم الدولة للقوانين الإسلامية»، لكن في شكل عصري بعيداً من أضابير الكتب القديمة وخلافات فقهاء الزمن الغابر، وفي صيغة تتعانق فيها الثقافات المحلية مع مقتضيات الشرع في انصهار عجيب، وفي طريقة تحول فيها الدين إلى طريق لحل المشكلات لا وسيلة لخلقها.
الإسلام ذائب هنا في نفوس الناس من دون طلاءات ولا زيف ولا تمسك بالمظاهر الخادعة والقشور الهشة، وصوت أذان الفجر في إندونيسيا يبعث على الخشوع والسكينة، عذوبة الصوت بالنغمة المصرية الأصيلة بنت مدرسة الأزهر العظيمة التي وضعت بصمتها هناك في قلب البحار البعيدة.
وفي إندونيسيا يتجاوز أعضاء جمعية «نهضة العلماء» الإسلامية 45 مليون عضو و«المحمدية» نحو 35 مليون عضو، لكنهما لا تلزمان أتباعهما بالتصويت في الانتخابات لمصلحة أحد بعينه، لأنهما تؤمنان بحرية الفرد، ولا تجبرانه وفق مبدأ «السمع والطاعة» الذي يسلبه إرادته وقراره، وينصرف جهد هاتين الجماعتين على تحقيق الامتلاء الروحي والسمو الأخلاقي والتماسك الأسري والنفع العام أو العمل الخيري.
وتسعى الدولة التي تتكون من 13 ألف جزيرة عائمة في المحيط الهادي، إلى جعل تنوعها مصدراً للقوة وليس للضعف والتفكك، لذا كان عليها أن تبدع صيغة تحكم علاقة مستقرة بين سكانها الذين ينتمون إلى 300 عرق ويتحدثون 250 لغة ويدينون بأديان عدة أولها الإسلام، ويدين به 86.1 في المئة، ثم البروتستانت 5.7 في المئة، والكاثوليك 3 في المئة، و1.8 في المئة، و3.4 في المئة يعتنقون معتقدات أخرى. ومن أجل المحافظة على وحدتها صاغ الرئيس سوكارنو عام 1945، وعقب انتهاء الاحتلال الياباني مباشرة، مبادئ خمسة لتحكم دستور الدولة يسمى «البانكسيلا» التي تعنى بالعربية «كلمة سواء» هي: الإيمان بإله واحد، وإنسانية عادلة ومتحضرة، ووحدة إندونيسيا، والديموقراطية تقودها الحكمة الداخلية في توحد ناشئ من المداولات بين الممثلين، والعدالة الاجتماعية لجميع أفراد الشعب الإندونيسي.
تحدث الإمام محمد عبده حين ذهب إلى أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر عن أنه وجد إسلاماً بغير مسلمين، وفي إندونيسيا هناك إسلام بمسلمين، ينصرف إلى الجوهر ويتفاعل مع مقتضيات العصر، فلا تجد الشوارع مزدحمة بأصحاب اللحى ومرتديات النقاب، بل تجدها عامرة بالسلوك القويم والرضا والاعتزاز بالدين والرغبة المتجددة في تحسين شروط الحياة.
إندونيسيا أكبر دولة يقطنها مسلمون في العالم لم يدخل الإسلام بحد السيف. الإمبراطورية الإسلامية في أيام الأمويين والعباسيين والعثمانيين اتسعت عنوة، وتحت سنابك الخيل، لكن الإسلام نفسه لم يكن في كل الأحوال مربوطاً بهذه النزعة، وخير دليل على هذا إندونيسيا. وبذا كان هذا البلد الذي أدخله التجار اليمنيون، بورعهم وأمانتهم، في رحاب جغرافية الإسلام الممتدة من غانا إلى فرغانة، حاضراً في سجالاتنا عن تاريخ الإسلام والمسلمين.