تستند العلوم والمعارف والثقافات المتنوعة على الثروة الخام المتمثلة بالعقل البشري المحفوف من كل حدب وصوب بمستجدات زخم المعطيات الزمانية والمكانية، مما يتطلب إعادة التقييم، أي التقويم ودراسة جدوى الوسائل والأدوات، وذلك في ظل «عولمة العولمة» المعرفية والعلمية والأكاديمية، المشيرة بإبهامها نحو حاجتها الماسة للتكامل المعرفي. 
وإن التكامل المعرفي (Knowledge Integration)، ما هو إلا هو محاولة «مجتهدة» لإخراج المفاهيم والعلوم من قاع الجب، وإنبات براعم الثقافات الغنية، وتفكيك قيودها الصلبة، وإعادتها لسياقها الحيوي السليم في مضمار التفاعل والتناغم.

فالمعرفة لدى الفيلسوف ابن رشد الحفيد، هي حسية عقلية، أي مترابطة بمقارنة حية بين المعرفي الحسي، والمعرفي العقلي، وهي ترتكز في «رأس مالها» على السمع والبصر كحواس ظاهرة، وإدراك القوة المتخيلة كحاسة باطنة، وعليه فإن الإنسان يرتقي في المعرفة العقلية من الجزئي إلى الكلي. 
وبالبقاء عند الاسم اللامع الذي ذكرنا آنفاً (ابن رشد)، وبالنظر لما أصبح العلم عليه اليوم، فإنه كانَ ينتمي معرفياً لعدة علوم، إذ كان فيلسوفاً، وطبيباً، وفقيهاً، وقاضياً، وفيزيائياً، وفلكياً.. وكان كغيره الكثير من العلماء الآخرين يمثلون في ذاتهم بحراً من العلوم، ضامين وسط معجمهم التكويني العلمَ الكوني والديني على حد سواء، لنستعين إلى يومنا هذا بالكثير من مؤلفاتهم ذات الطابع الموسوعي الجامع. 
لكن الآنية التي تتقلب فيها المجتمعات ذات اليمين وذات الشمال، وفي ضوء المعطيات الهائلة من التطورات الميسرة والمسهلة لتدفق المعلومات بالغة الدقة، أصبح الإنسان أكثر تخصصاً، وهذا ليس بالأمر السلبي إطلاقاً، بل هو هدف تسعى لتحقيقه العديد من الجامعات والمؤسسات، لكنه يكون سلبياً إذا ما انطفأت المنارات عند حواف ذلك التخصص «الدقيق».

فمن المعلوم أن الغوص في التخصص يعني المزيد من الإبداع وفتح أفق الاختراع والتطوير الفعال، لكنه إذا لم يشرك بمتعلقاته الجامعة من العلوم والتخصصات الأخرى، بقي أسيراً لحيز علمي بعينه، الأمر الذي يجعل من العلم ذي الجِدة والتطور، قالباً جامداً محدود القدرات، مبتور الأجنحة! وذلك لأن الثورة التقنية ونتاجاتها المعلوماتية هي أعمدة مشيَّدة على أرضية ثابتة، ألا وهي «العقل الإنساني»، وهذه الأرضية بحاجة لتطوير العلوم المقدمة لها كغذاء، لتصبح أكثر كفاءةً في استخدام أساليب واستراتيجيات التفكير وحل المشكلات، وغيرها من الأنماط الذهنية ذات الصلة، والتي تترجم كتحديات على أرض الواقع. 
وتتجلى أهمية التكامل ضمن مجالات العمل العلمي، من خلال النظر في تصنيف الفيلسوف «بوير»، ذلك أن العمل العلمي وفقاً له ينقسم إلى أربعة مجالات، على رأسها «الاكتشاف» المرافق لعمليات البحث في حقول المعرفة المختلفة، ويليه «التطبيق» كإمكانية الاستعمال العملي لتلك الاكتشافات، ويتبعه تناقل ذلك العلم الناتج، وصولاً إلى حالة من التكامل ودمج المعنى بالتركيب، فـ«من خلال التكامل فقط يصبح البحث جديراً بالثقة»، كما يقول بوير. 
والدافع لتركيز مؤشر البوصلة نحو وسائل تحقيق التكامل المعرفي، ما يبرز من حاجة منهجية تفاعلية في مضمار البحث والتعليم، تصب في صلب القضايا الحيوية والمعاصرة للمجتمع الإنساني، وتؤول لاستيعابها والنهوض من خلالها. إن الأخذ بالتكامل المعرفي كمشروع قادم ولازم، لا ينفك عن كونه عملية انسجام مع طبيعة العقل الإنساني باعتباره وحدة متكاملة، سيما أنه لا يستجيب للمشاكل والأحداث كل على حدة، بل يعمل على حلها وإدراكها من خلال الخوارزمية الدماغية المترابطة، وذلك في كلا سياقيه من «البناء» و«الهدم»، باكتساب الجديد وتجاوز القديم أو الإضافة عليه. 

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة