تعرضنا في المقال السابق للخلفية التاريخية للحرب الباردة، التي استمرت من 1949 إلى 1991 بين منظمتي حلف شمال الأطلسي (الناتو) بقيادة الولايات المتحدة الأميركية وحلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفييتي سابقاً، والتي انتهت بإعلان انتصار المعسكر الغربي وانفراط عقد المعسكر الشرقي، بل وتفكك الاتحاد السوفييتي نفسه وانضمام 13 دولة، منها ما كانت جزء من الاتحاد السوفييتي نفسه، إلى العدو القديم وهو منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو).

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أصبحت روسيا الشريك التجاري السادس والعشرين عالمياً للولايات المتحدة الأميركية بنهاية العام 2019، بما يقدر بـ 34.9 مليار دولار إجمالي التجارة بين الدولتين.
ولكن الدلائل تؤكد أن انتصار الغرب واحتواء روسيا تجارياً وحلفائها القدامى سياسياً وعسكرياً لم ينهِ الحرب الباردة كلية، بل هناك واقع جديد فرضته واشنطن على موسكو يقوم على 3 ركائز أساسية.
الركيزة الأولى، فرض عقوبات اقتصادية ودبلوماسية على كيانات أو شخصيات روسية بصورة مستمرة سواء من الولايات المتحدة بمفردها أو بمشاركة الاتحاد الأوروبي أيضاً. ومثال ذلك أنه ما بين مارس 2014 إلى سبتمبر 2018، قامت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بإصدار 34 و39 قرار عقوبات على روسيا على التوالي. وخلال شهر أبريل الماضي، أصدرت الإدارة الأميركية مجموعة واسعة من العقوبات على روسيا، بسبب ما أسمته (الأعمال الخبيثة) التي قامت بها ضدها.
أما الركيزة الثانية فتقوم على استقطاب واشنطن للحلفاء القدامى لموسكو سياسيا ومحاولة فرض الواقع الديموقراطي، حسب رؤية الأولى، داخل تلك المجتمعات للتأثير على المدى الطويل على الشعب الروسي نفسه وجعله ينقلب على النظام القائم هناك. والركيزة الثالثة تستند على إنشاء تحالفات عسكرية بين حلف الناتو ودول أعضاء حلف وارسو السابق بهدف إيجاد مواطئ قدم عسكرية أمريكية على تخوم روسيا.
وبالرغم من أن الوضع يبدو فقط بين روسيا وحلف الناتو، إلا أن السيناريو الحقيقي للحرب الباردة التي ستستمر برأيي إلى العقدين القادمين على الأقل، يجري بالفعل بين الولايات المتحدة والصين والتي تدعمها روسيا بشكل أو بآخر. وخلفية ذلك السيناريو تعود إلى العام 1949 عندما فرضت الولايات المتحدة الحظر الأول على جمهورية الصين الشعبية، ثم هدأت العلاقات في فترة التطبيع بين البلدين من 1979 إلى 1989 عندما عادت العقوبات الأميركية بقوة على الصين أعقاب مظاهرات ميدان «تيانمين»، ثم تم فرض عقوبات جديدة اقتصادية وتجارية شديدة على شركتي «هواوي» و«زد تي إي» وحرب التعرفة الجمركية بين البلدين في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. وحالياً، يسعى مجلس الشيوخ الأميركي لتبني سياسة «المنافسة الاستراتيجية» مع الصين لحماية وتعزيز المصالح والقيم الحيوية الأميركية، وتعزيز قدرة البلاد على المنافسة مع الصين.
والأمر اللافت للنظر، أن تركيز الولايات المتحدة الأميركية على «الحرب الباردة» التقليدية سياسياً وعسكرياً ضد روسيا، تزامن مع تجاهل شبه تام لتنامي قوة الصين اقتصادياً، بل ومحاولة استقطابها لتكون ضد السياسة الروسية، ولكن ذلك الوضع، أدى لنشوء أكبر عجز تجاري بين واشنطن وأي دولة أخرى، إذ وصل في نهاية 2020 إلى (310.8) مليار دولار لصالح الصين. وعند التركيز أيضاً على تزايد القوة العسكرية للصين، تقليدياً ونووياً، نجد أن المستفيد الأكبر من الحرب الباردة الحقيقية بين الصين والولايات المتحدة الأميركية هي روسيا، والتي تركز على استنزاف واشنطن اقتصادياً وعسكرياً من خلال التنافس مع الصين، لتعود لروسيا الهيمنة مرة أخرى على الساحة الدولية، ولكن بجانب الصين وبالتحالف معها وليس ضدها.