بدأت التوترات بين روسيا وأوكرانيا تأخذ منحى تصاعدياً، في ظل الحشد العسكري على الحدود وفي شبه جزيرة القرم التي أصبحت تابعة لموسكو منذ سنوات.
وتقاتل كييف الانفصاليين المدعومين من روسيا في شرق أوكرانيا منذ عام 2014، حيث تقطن أغلبية ناطقة باللغة الروسية، وقد اشتدت الاشتباكات المتتالية منذ بداية العام الجاري، مما أدى إلى انهيار وقف إطلاق النار الذي تم الاتفاق عليه في يوليو الماضي. 
ولفهم تداعيات التصعيد، تجب الإشارة أولاً إلى أن الرئيس الأوكراني قام بالتوقيع على قرار مجلس الأمن والدفاع القومي الأوكراني بشأن فرض عقوبات لمدة خمس سنوات على «تاراس كوزاك» نائب في البرلمان الأوكراني من حزب «منصة المعارضة: من أجل الحياة» وعلى ثماني شركات. وبموجب القرار تم إيقاف بث عدة قنوات تلفزيونية ترتبط بالنائب البرلماني فيكتور ميدفيدتشوك، أحد زعماء حزب «منصة المعارضة: من أجل الحياة» المقرب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والذي يعد تقريباً الحزب الوحيد الموالي لروسيا في أوكرانيا حالياً.
ولكي نعي جيداً الدور الهام الذي يلعبه هذا العامل في التصعيد، يكفي أن نعرف أن ميدفيتشوك يوصف بأنه «رجل بوتين في أوكرانيا» ويرتبط بصلة قرابة «روحية» مع الرئيس الروسي الذي عمَّد ابنة ميدفيتشوك، حيث يعَد المعمّد في ثقافة المنطقة بمثابة الأب.
ثم هناك ثانياً العامل الأميركي، حيث جاءت إدارة الرئيس جو بايدن بموقف أكثر تشدداً حيال روسيا. وقد بدأ العام 2021 بدعم أميركي حجمه 125 مليون دولار لقطاع الدفاع الأوكراني، وبالتأكيد على الاستعداد لتزويد كييف بأسلحة «فتاكة». ثم أعلن الرئيس بايدن مؤخراً فرض سلسلة عقوبات مالية صارمة على روسيا، إضافة إلى طرد عشرة دبلوماسيين روس. وجاءت هذه القرارات بعد سلسلة أعمال نُسبت إلى موسكو، بما فيها هجوم إلكتروني هائل ومحاولات التدخّل في الانتخابات الأميركية. 
فلا جرم إذن أن تأخذ موسكو تلك القرارات الأميركية بالجد، وتبعث برسالة إلى الولايات المتحدة مفادها أن الروس جاهزون لكل الاحتمالات، بما فيها الحرب إذا لزم الأمر. 
كما استغلت روسيا بعض الفتور في النظرة الهجومية لأوروبا حيالها في ظل المصالح الأوروبية وبالأخص الألمانية منها. فألمانيا اليوم مهتمة بإتمام مشروع «نورد ستريم 2» لنقل الغاز الروسي إليها مباشرةً، وبغض النظر عن تداعياته السياسية والأمنية، بل وحتى الاستراتيجية.
واهتمت ألمانيا وفرنسا منذ مدة بتحسين العلاقات مع روسيا وإعادتها شيئاً فشيئاً إلى طبيعتها، وهو ما اعتبرته دوائر القرار الروسية بمثابة ضوء أخضر في ما يتصل بأوكرانيا. ولربما جاءت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخيرة في مقابلة تلفزيونية أجرتها معه شبكة «سي بي إس» الأميركية تزكي جزئياً هذا التفسير، إذ وبالرغم من قوله بأن فرنسا مستعدة لفرض عقوبات على روسيا، فقد أكد في نفس الوقت أن هناك «حاجة إلى إجراء حوار صريح معها»، وأن العقوبات وحدها «غير كافية»، وأن من الأفضل إقامة «حوار بنَّاء» مع روسيا.
وهذا ما يحيي مخاوف غربية من إبعاد أوكرانيا إلى هامش عملية السلام في إطار «رباعية النورماندي» (أوكرانيا وروسيا وألمانيا وفرنسا)، ولهذا نرى العديد المسؤولين في كييف يدعون إلى إعطاء دور أكبر للولايات المتحدة داخل أو خارج إطار الرباعية.
وهناك عملان جانبيان آخران ساهما في هذا التصعيد، بما في ذلك سعي أوكرانيا إلى تنظيم مؤتمر «منصة القرم» الدولي في أغسطس المقبل لحشد الدعم ضد روسيا وإبقاء العقوبات المفروضة عليها، ووصول علاقات التعاون العسكري والأمني والتقني بين أوكرانيا وتركيا إلى مستوى «استراتيجي»، حيث أضحت تركيا مصدراً رئيسيا للطائرات المسيرة بالنسبة للجيش الأوكراني.
وقد يقول قائل إن هدف روسيا من هذا التصعيد هو الاستعراض والاستفزاز في المنطقة، لكن إذا ما نجحت روسيا في جر أوكرانيا إلى مواجهة عسكرية مفتوحة وواسعة، ومع عدم تكافؤ القوى، فإن المنطقة ستعرف غلياناً غير مسبوق وحرباً ضروساً سيؤدي فيها الأوكرانيون (ثم الأوروبيون) فاتورة العلاقات الصعبة في النظام العالمي الجديد.