حسم الرئيس جو بايدن جدلاً أميركياً استمر نحو عقدين معلناً الانسحاب الكامل من أفغانستان، لأن مبررات البقاء هناك لم تعد كافية ولا مجدية. ووسط التساؤل عما إذا كان قراره يأتي نتيجة «نصر» أو «هزيمة»، من دون إجابة واضحة، كان وزير الخارجية انطوني بلينكن يقول لنظرائه في دول حلف شمال الأطلسي: إن أهداف الغزو العسكري «تحققت»، وليس هناك توافق بين الحلفاء على هذا التقويم، لأن الأهداف السياسية انتقلت من فشل إلى فشل. الأكيد أن ضرب البنية التحتية لتنظيم «القاعدة» وتقويض قدراته، كهدف عسكري مباشر للحرب، قد تحقق، كما أن التهديد الإرهابي للولايات المتحدة أُضعف إلى حدّ لم يعد يستوجب البقاء في أفغانستان. يُضاف إلى ذلك أن دول التحالف قامت بتدريب وتسليح جيش أفغاني كبير العدد وستواصل دعمه حتى بعد الانسحاب، ويُفترض أن يؤمّن هذا الجيش، مع الأجهزة الأمنية التي أعيد بناؤها وتأهيلها، الحمايةَ الكفيلة بالحفاظ على الدولة.
لكن الأداء العسكري والأمني لم يبدِ فاعلية ميدانية، ومضت أعوام من دون أن يتحسّن ويثبت قوته على الأرض، بل أن حركة «طالبان» التي انهارت عام 2001 استطاعت أن تعيد رصّ صفوفها للسيطرة على مناطق واسعة غربي أفغانستان، عدا اختراقاتها الخطيرة في المناطق الأخرى، خصوصاً العاصمة كابول، ما أظهر هشاشة الولاء للدولة وقواها المسلحة، علماً بأن تجربة «طالبان» في الحكم (1996 -2001) لم تكن مما يؤسف عليه، لا في بناء دولة ولا على أيٍ من الصعد الاقتصادية والاجتماعية أو التعليمية والصحّية. 
بُذلت محاولات أميركية عدّة لإضعاف «طالبان» عسكرياً وجذبها إلى شراكة في «عملية سياسية»، لكنها لم تفلح، وظلّ المطلب الدائم للحركة «خروج القوات الأجنبية» من دون شروط. وعندما حاورتها إدارة دونالد ترامب على أساس «سحب قواتها» لم تستطع أن تنتزع منها في المقابل أي تنازلات سياسية، كأن تشارك مثلاً في انتخابات مبكرة أو توافق على وقف لإطلاق النار وعدم التعرّض للقوات الأميركية المنسحبة. وبعد جولات تفاوض عقيمة، اتّبعت «طالبان» شيئاً من المرونة فالتزمت بمنع أنشطة إرهابية لمجموعات مثل «القاعدة» و«داعش»، ووافقت على حوار مع حكومة كابول حول ترتيبات لمرحلة ما بعد انسحاب القوات الأجنبية. راهن الأميركيون على هذا الحوار لكنه ظلّ بلا نتائج.
دأبت واشنطن على تقديم تجربتها في أفغانستان كمشروع لـ«إقامة دولة حديثة ديمقراطية مستقرّة»، لكن الطاقم السياسي الأفغاني الذي تولّى هذه المهمة لم يُظهر كفاءة عالية، بل نخرته الانقسامات والمنافسات واستشرى فيه الفساد، ولم يطرأ أي تحسّن مع تغيير الأشخاص بعد الانتخابات الأخيرة، بل أن خلافات كثيرة تباعد بين أطراف الحكم في شأن المرحلة المقبلة. وفي الوقت نفسه ترفض «طالبان» المشاركة في حكومة انتقالية تحلّ محل الحكومة الحالية. لذا تراهن واشنطن الآن على مؤتمر يعقد في إسطنبول بهدف إلزام مختلف القوى الأفغانية بالتعاون على انتقال سلمي إلى مرحلة ما بعد الوجود العسكري الأجنبي. لكن تقارير الاستخبارات مجمِعة على جملة توقعات: عودة «طالبان» إلى السلطة، تجدّد الحرب الأهلية، تهديد إرهابي متزايد، وأزمة لاجئين بدأت لتوّها تقلق البلدان الأوروبية.. وبالطبع هناك دول مجاورة تستعد للوضع المستجد؛ فبين إخفاق حكومات كابول المتتالية وتصلّب «طالبان» لا مجال لتوافق داخلي بل مجالات كثيرة للاستغلال الإقليمي.