إلى جانب مناداة بعض المواطنين العرب في شوارع مدنهم بحكومة مدنية، ينادون أيضاً بإرساء قواعد حكومة تكنوقراطية يكون الوزراء المعينون فيها تكنوقراطيين، فما هي الحكومة التكنوقراطية ومن هم أولئك التكنوقراطيون الذين يشغلون مقاعد وزاراتها؟
لغوياً التكنوقراطية في عالم السياسة هي حكم الفنيين، وهي مقولة أميركية استخدمها في بداية الأمر المفكر هنري سميث من جامعة بيركلي في كاليفورنيا عام 1919، ثم شاع بعد ذلك استعمالها حول العالم.
ولدى سميث هي تعني حكم المواطنين الأكثر كفاءة وتأثيراً ونشاطاً من خلال العلماء والفنيين المتخصصين في مجالاتهم الدقيقة. واستخدم مصطلح «تكنوقراطية» في الولايات المتحدة بكثافة أثناء فترة رئاسة الرئيس روزفلت، خاصة عندما ظهرت مقولات «الاتفاقية الجديدة»، وأصبحت تطلق على الأفكار التي تم تبنيها والدعوة إلى تطبيقها خلال سنوات الكساد الكبير، وهي الأفكار التي تنادي بضرورة استخدام العلوم في حل مشاكل المجتمع، خاصة العلوم البحتة.
تشير العديد من المصادر الأساسية في علم السياسة إلى أن التكنوقراطية هي وضع سياسي تكمن فيه السلطة السياسية الواقعية في أيادي الفنيين المتخصصين الذين يطلق عليهم التكنوقراطيون، وإلى أنها نظام سياسي يحظى فيه الفنيون بتأثير واسع على إدارة الأمور في القطر المعني على صعد الاقتصاد والإدارة الحكومية، وإلى أن الفنيين هم الذين يمارسون السلطة بحكم تخصصاتهم الفنية، وبأنها، أي التكنوقراطية هي الحكومة التي تستخدم العلوم البحتة من هندسة وكيمياء وفيزياء في حل المشاكل التي تلم بالدول، خاصة في أوقات الأزمات الاقتصادية الكبرى، وإلى أنها ممارسة السلطة السياسية عن طريق وضع الخبراء الفنيين في كراسي السلطة السياسية، وإلى أنها نظام سياسي تكون فيه السلطة السياسية مركزة في واقع الأمر في أيادي التكنوقراطيين.
ومن سياق هذه التعريفات يتضح بأنها تصب في معين واحد فحواه أن التكنوقراطية ظهرت كمفهوم نتيجة للتقلبات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي ألمت بالعالم الرأسمالي، خاصة الولايات المتحدة الأميركية أثناء فترة الكساد الكبير في عشرينيات القرن الماضي، أي في أعقاب الحرب العالمية الأولى مباشرة.
لقد ظهرت كمفهوم كان يقصد منه العمل السريع واسع النطاق لتنظيم حياة المجتمع الاقتصادية على ركائز من خطط الترشيد المستندة على استخدام العلم في الحياة.
في زمننا الحاضر يتضح بأنه ربما لا يمكن للبشرية مواجهة المعضلات الكبرى التي تقف أمامها، كحماية البيئة ومكافحة الإرهاب ومشاكل الحروب وتحقيق السلم العالمي دون إسهام الخبراء والفنيين والمتخصصين في ذلك، بالإضافة إلى أهمية التقنيات الحديثة في الإدارة والتنظيم والرصد والمتابعة والتنسيق، وهي أمور تسلط الضوء على مكانة القائمين بها في تسيير أمور الدولة والمجتمع. فهم الأكثر خبرة، ومن دونهم لا يمكن للنظامين الاقتصادي والاجتماعي أن يتحقق لهما التنمية والاستقرار لكي يعملا بكفاءة.
لذلك فإن العصر الحاضر هو المجال والساحة التي يؤدي فيها العلماء والمتخصصون من الاقتصاديين والمهندسين والخبراء في كافة المجالات العلمية ومن شتى علوم الحياة أدوار جليلة تخدم الدولة والمجتمع، فما تتخذه السلطات السياسية من قرارات عليا هي قرارات ذات طبيعة تقنية، ولكي تتمكن من تنفيذها على أكمل وجه هي في حاجة ماسة إلى هؤلاء التكنوقراطيين للاضطلاع بها.
ودون شك أن علماء السياسة الذين أسهموا في توضيح فكرة التكنوقراطية هم كثر، لكن إسهاماً في هذا التوضيح ربما يمكننا تعريفها بأنها شكل من الحكم تكون فيه القرارات الأساسية قائمة على اعتبارات فنية، أي أنها نظام تكون فيه ممارسات السلطات المسؤولة هي عاكس للرغبة في ترشيد مقدرات وآليات وإمكانات المجتمع للاستفادة منها بأقصى درجة ممكنة.
ومن وجهة نظر علم السياسة، فإن السلطة التكنوقراطية لا تقوم على التفويض الشعبي، ولكن على اختيار أولي الأمر السياسيين لمن يؤدون الأدوار والتكنوقراطية، وهذا الاختيار يقوم على التخصص الفني والخبرة.
ويتبلور التعبير عن ذلك من خلال ثلاث طرق هي، أولاً، قدرة التكنوقراطي على تقديم النصح والمشورة والبيانات والمعلومات المطلوبة التي يتم الاستناد إليها في قرارات أولي الأمر. وثانياً، قدرة التكنوقراطي على الأداء وتنفيذ المهام المنوطة به لتحقيق أهداف السياسة. وثالثاً، وأخيراً، لا بد من منح التكنوقراطي السلطة والدعم المادي لمساعدته على تنفيذ السياسة العامة.
* كاتب إماراتي