خلال مراجعاتي التي ألزمت نفسي بها، بشكل دوري، رحت أطالع الجدل التاريخي العلمي بين «آينشتاين» الذي قال: «المستقبل موجود وكائن بالفعل، لا كما نتصوره معدوماً في انتظار أن يحصل» وبين عالم الفيزياء «فيرنر هايزنبرغ»، الذي قال: «لا يمكننا قياس أي قيمة لجسم مثل الكتلة أو السرعة دون أن تتغير بقية القيم التي تعرّف هذا الجسم»، بمعنى أنه «لا يمكننا أن نقول إن هناك قيماً ثابتة بشكل مطلق لأي جسم، وعليه لا يمكننا عملياً وصف أي جسم بدقة مطلقة، لأن عملية القياس والرصد ذاتها تغير من طبيعة الأجسام المرصودة ومواصفاتها، وأنه ليس هناك واقع دون راصد وليس هناك حقيقة دون محقق، أي أننا نحن البشر، وحسب الفيزياء الكمية نشارك عملياً في صناعة الكون، ويصعب علينا تخيل المستقبل وأن المسألة برمتها قائمة على الاحتمالات.
لست مع الجدل الفلسفي في هذه المسألة، لكن ربما يكون من المفيد قراءة هاتين النظريتين على الواقع السياسي وتحديداً مع تغير الإدارة الأميركية ورؤيتها نحو العالم والشرق الأوسط، وهل أن سياسة الإدارة الأميركية الخارجية تقع ضمن مفهوم النظرية النسبية أم الفيزياء الكمية. أي هل ستتبع الإدارة الأميركية السياسة العامة الإستراتيجية في التعاطي مع الشرق الأوسط، أو على الأقل تحسين وتطوير ما بدأه «الديمقراطيون» خلال عهد الرئيس الأميركي أوباما من سياسات خارجية وتشذيب ما واجهته من نقد على المستويين الداخلي والدولي، أم أنها ستكون خاضعة لنظريات الاحتمالات التي لا تنتهي، ولا يمكن رصدها أو تعقبها على الإطلاق، والتي لا نراها بعيون علمية فنطلق عليها جُزافاً اسم التخبط؟
لفهم مستقبل العلاقات الأميركية مع الشرق الأوسط، لابد من فهم دقيق لما يحدث لكل من العلاقات الأميركية الإسرائيلية والعلاقات الأميركية الإيرانية خلال عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مقارنة مع التوجهات الأولية لهاتين العلاقتين في الإشارات المبدئية التي صدرت عن الإدارة الأميركية الجديدة، فالتشديد «الترامبي» على إيران وتركيا والدعم الكبير لإسرائيل والتحالف والعلاقات الدافئة الحيوية مع دول الخليج تراجع إلى الفتور الغامض ثم إلى البرود مع بداية عهد الإدارة الأميركية الجديدة، في ملفات كانت الأكثر صخباً حول العالم قُبيل رحيل ترامب بساعات.
بالمقابل، هل ستتخلى أميركا كلياً عن مشروع السلام في الشرق الأوسط في خضم رؤية جريئة بدأتها الإمارات في سبتمبر 2020 كخطة مستقبلية لشعوب المنطقة والعالم، والتي لم تخضع للاحتمالات بقدر خضوعها إلى العقل والقراءة المتمعنة الحكيمة، وإذا فعلت أميركا ذلك قبل أن يمتد المشروع الإبراهيمي ليشمل المنطقة بأسرها، فماذا ستجيب الإدارة الأميركية الشعب الفلسطيني والشعب الإسرائيلي وشعوب المنطقة الذين بدأت قلوبهم تتعلق بأمل السلام القادم، الذي سيحسم الصراع الأزلي إلى الأبد؟
قيل إن مؤسسة «راند» قدمت توصية للبيت الأبيض تفيد بأنه لا ينبغي على إدارة الرئيس الأميركي جوزيف بايدن أن تمنع تعاون الشرق الأوسط مع روسيا والصين إذا لم يضر ذلك بالمصالح الأميركية، ولكن جاءت التوصية بنتيجة عكسية، ولم يكن القرار الأميركي محصوراً في التضييق على الصين وروسيا في الشرق الأوسط فحسب، بل امتد ذلك إلى العمق الدولي، فاتهم الرئيس الأميركي الرئيس الروسي بأنه «قاتل»، وبدأ خلافاً استراتيجياً محورياً مع الصين، قد لا يهدأ لسنوات.
ماذا ستخسر أميركا؟ تجيب قاعدة بيانات SIPRI، وهي المورد العام الوحيد الذي يرصد تقديرات النقل الدولي للأسلحة، في تقرير لها صدر مؤخراً «أن ارتفاع صادرات الأسلحة الأميركية إلى الشرق الأوسط خلال الفترة 2015- 2020 قد قابله انخفاض كبير في صادرات الأسلحة الصينية والروسية إلى الشرق الأوسط خلال الفترة ذاتها، والذي يشي بأن «التموضع الأميركي» الجديد، سوف يؤدي حتماً إلى تغيّر كبير في تلك الأرقام، سواء في الصناعات العسكرية أو في غيرها، وسيكون ذلك التغير لصالح العملاقين روسيا والصين، بمعنى أن الخسارة الأميركية قد تكون فادحة.
حسب الفيزياء الكمية، فإن «التموضع الأميركي» يجعل كل الاحتمالات قائمة، ولا يمكن تحديد المستقبل ليوم واحد فقط، وأن كل الحقائق التي نعرفها عن السياسات الاستراتيجية الأميركية لم تعد نسبية، بل باتت مجرد احتمالات لا حصر لها.