أغلب التحليلات السياسية التي تزامنت مع ما حدث في الانتخابات الرئاسية الأميركية وبعدها، في شهري أكتوبر ونوفمبر الماضيين، ذهبت إلى أن هنالك انتصاراً وهزيمةً، في إشارة إلى الحزبين «الجمهوري» و«الديمقراطي» اللذين تنافسا في العملية الانتخابية، الأمر الذي جعل بعض تلك التحليلات تنأى عن حقيقة مهمة كان يَتوقع سماعَها المهتمون والمراقبون في الداخل الأميركي وخارجه. لكن إذا كان في بعض تلك التحليلات شيء من عدم الدقة، فما تلك الحقيقة؟ إن المنتصر الوحيد في ما حدث كان هو مؤسسات الدولة الأميركية، وبالأخص الدستور والقانون والقضاء الأميركي والمواطن الأميركي. هذا الأمر هو الذي كان لافتاً في ما حدث، وهو الذي يستحق التوقف عنده وتأمله والإفادة منه. فقوة مؤسسات الدولة إنما تستمد من قوة الدستور الأميركي وتستند إلى نصوصه الصارمة التي من شبه المستحيل تعديلها، ومن أهمها السلطة التشريعية ومؤسسة القضاء ممثلةً بالمحكمة الاتحادية العليا. لذلك فإن بعض تلك التحليلات، على ما فيها من رؤى وتصورات، كانت مأخوذة بظاهر الحدث فقط. 
إن ما شهدته الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة ليس مسبوقاً في تاريخ السياسية الأميركية منذ 200 عام أو يزيد، أي منذ عهد جورج واشنطن الذي أصبح أول رئيس للولايات المتحدة في عام 1789 حيث كانت العملية الانتخابية تجري بيسر وسلاسة، دون مشكلات تعيقها أو تعرقل سيرها، أو تتسبّب في إيقافها أو تأجيلها. ولعله من هنا مصدر غرابة ما حدث واستهجانه سياسياً وحقوقياً: إذ كان من المتوقع لتراكم التجربة الانتخابية وقوتها أن يحول دون ذلك، وهي التجربة التي تكررت 59 مرة من قبل في ظل الدستور الأميركي الذي جرى التصديق عليه عام 1788 ويعد أول الدساتير المكتوبة في العالم، ومن أهم ميزاته أنه صعب التعديل، إذ يحتاج تعديله إلى موافقة ثلاثة أرباع الولايات. كما أنه الدستور الوحيد الذي يفتتح بالجملة «نحن الرجال»، ولم ترد في كامل بنوده كلمة «رب»، لذلك فقد منع بشكل بات «إجراء اختبار ديني لأي شخص يرغب في شغل وظيفة». كما نص على أن الكونغرس «لن يقوم بأي حال من الأحوال بتشريع قائم على أساس ديني». أما الشعار المكتوب على ورقة الدولار «بالله نثق» أو نؤمن، فقد سكّتهُ ولاية فلوريدا من قبل وكتبته على علمها المحلي في عام 1782 قبل أن تتبناه الدولة المركزية الاتحادية وتضعه على عملتها الورقية.