أحتفظ في أرشيف الذاكرة بما قرأت في مقابلة أجراها أواخر ثمانينيات القرن الماضي مراسل غربي مع الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، وقد سأله عن ظاهرة شاهدها المراسل بنفسه، وهو يجول في أحياء وشوارع العاصمة الليبية طرابلس، تتعلق بفوضى الكتابات على جدران العمارات والمباني. طبعاً لم يُفوّت القذافي تلك الفرصة للفذلكة العجائبية على طريقته المعهودة، فأجاب بأن الليبيين يعملون على تفريغ قهرهم التاريخي الطويل من الاستعمار الغربي!
ثم أضاف مخاطباً المراسل: عد إلينا بعد ثلاثين سنة، وستجد أن الليبيين أنفسهم قد مسحوا تلك الكتابات بأيديهم عن الحيطان! ما حدث فعلياً بعد ذلك بما يقارب الثلاثة عقود، أن الليبيين بأيديهم مسحوا العمارات والمباني والجدران والدولة كلها. والقهر لا يزال موجوداً. وفعلاً، ها نحن اليوم على أرض الواقع، قد انتهينا إلى ليبيا ممزقة، وقد تسلل إليها بخبث ثوار الكهوف القادمين من غياهب القرن السابع الميلادي، ومن كل أصقاع الأرض، لتصبح ليبيا قريباً خزان الإرهاب القادم.
وأيضاً مما أذكره كشاهد عيان وفي عشاء في فرساي الفرنسية عام 2014 جمعني مع الراحل محمود جبريل «رحمه الله»، أول رئيس وزراء ليبي بعد الإطاحة بالقذافي ومحاولات إنشاء الدولة التي أخفقت بعد ذلك بسبب خبث الانزلاق «الإخواني» للسلطة واختطافها ثورة الليبيين، لم يخف الرجل مخاوفه من تحول ليبيا إلى مخزن تجميع للراديكالية المتطرفة وبتمويل من دول عربية بعينها تدعم التطرف الإسلاموي، بحيث تحقق في ذلك هدفين «حسب رؤيته»: إبعاد هؤلاء المتطرفين عن مجالها الحيوي واستخدام هؤلاء كأدوات لتنفيذ سياسات إقليمية تخدم تيار الإسلام السياسي.
وعليه، فإن تنظيماً يحمل كل تلك الأيدلوجية القاتلة مثل تنظيم «داعش» الإرهابي «في أي إصدار متطرف جديد له»، وفي أجياله المتلاحقة التي تتطور جيلاً بعد جيل في موهبة الاختفاء والظهور من جديد عبر الخلايا النائمة التي تتشرنق بالتطور التكنولوجي، واتباع هذا التنظيم أسلوب حروب العصابات في انتشاره، فإن الحديث عن دحره في جغرافيا محددة والانتصار عليه لا يعدو أكثر من انتصار على وجوده في تلك الجغرافيا فقط. فقدرته التي تتغذى على تمويل لا ينضب من دول راعية بعينها تجعله قادراً أيضاً على إيجاد مناطق آمنة، يلوذ بها كلما تشرذم ليتجمع من جديد، وهنا مكمن خطورته، وهذه المرة الخطورة مضاعفة إذا ما توفر له الملاذ الآمن في ليبيا، التي تشهد أصلاً مقرات تحول بعضها إلى كيانات ناجزة تطبق «فقه التطرف»، وقابلة للتمدد بوحشيتها حتى تخوم السواحل القريبة من أوروبا والمتوسط، وقابعة على أحد أهم بحيرات النفط في العالم.
في الخلاصة؛ الحل الوحيد، هو الانتباه الدولي والجاد إلى الملف الليبي، وحسم القضية الليبية نحو الدولة والمؤسسات وتحرير الإنسان الليبي من إرث ثورات بكل ما فيها من دم وثارات وعصبية، والخروج من متاهة المبعوث الدولي العبثية، الذي تغير أكثر من مرة عاجزاً عن لملمة أطراف الصراع ولو مرة واحدة على طاولة حوار جادة تحقق المصلحة للجميع وإلى الأبد.
ليبيا بحاجة إلى قرار دولي يعيد الأمن إلى أهلها وبحزم وحسم، قبل أي حديث عن إعادة بناء دولة. فأي دولة تلك التي يمكن بناؤها بين الحرائق المشتعلة؟
*كاتب أردني مقيم في بلجيكا