قبل أن تبدأ المفاوضات حول اتفاقية قرضين بقيمة 10 مليارات دولار، رحّب صندوق النقد الدولي بخطوتين أقدم عليهما العراق: خفض سعر صرف الدينار بنسبة تزيد عن 20%، وإقرار موازنة الدولة للعام الحالي بعجز تاريخي بلغ نحو 48.2 مليار دولار، أي بما يعادل 46.6% من إجمالي الموازنة، وهو رقم قياسي يسجل لأول مرة في تاريخ الاقتصاد العراقي. واعتبر الصندوق تخفيضَ سعر الصرف خطوةً بالغة الأهمية في تنفيذ سلسلة خطوات إصلاحية، بما يؤدي إلى إعادة معايرة حاسمة للسياسات المالية من أجل الحفاظ على استقرار اقتصادي، علماً بأن قروضه لا تغطي سوى جزء يسير من الفجوة المالية. وهذا التخفيض الذي رفع سعر بيع الدولار من 1182 إلى 1460 ديناراً، يحصل للمرة الأولى خلال خمس سنوات، أي منذ ديسمبر 2015، عندما رفع السعر من 1166 إلى 1182 ديناراً. 
أما الأسباب فتعود إلى سد فجوة التضخم في موازنة عام 2021، بعد انهيار أسعار النفط العالمية، وجاءت هذه الخطوة الاستباقية «حرصاً من البنك المركزي على تفادي استنزاف احتياطاته من العملات الأجنبية»، ولمساعدة الحكومة على تأمين رواتب الموظفين. مع العلم أن موازنة العام الماضي اقترضت من «المركزي» 25 مليار دولار لتأمين الرواتب. وإذا كان القرار قد أغضب الشارع العراقي، فإن رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي دافع عنه بقوة، موضحاً بأن حكومته كانت أمام خيارين «إما انهيار النظام والدخول في فوضى عارمة، أو الدخول في عملية قيصرية للإصلاح». هذا مع العلم أن العراق يحتل حالياً المرتبة 12 في لائحة البلدان الأكثر فساداً في العالم، حسب منظمة الشفافية الدولية. 
وفي الوقت الذي أعلن فيه صندوق النقد استعداده لدعم جهود الإصلاح، ومساهمته بتقديم القروض والمساعدات المطلوبة، أكد ملاحظات خبرائه الذين فوجئوا بتحول العراق من بلد يتمتع بفائض سيولة كبير إلى بلد يعاني من عجز متراكم في موازنة الدولة، ومدين لمؤسسات التمويل الدولية، وشركات النفط! لكن المفاجأة الأخطر التي توقف عندها الخبراء طويلا، هي مشكلة الفقر الذي يعم مختلف المناطق، خصوصاً في بلد غني كالعراق على مر التاريخ، فهو عملاق نفطي، وثاني أكبر منتج بين أعضاء منظمة «أوبك» بعد المملكة العربية السعودية، إذ لا يقل إنتاجه عن 3,5 مليون برميل يومياً، ويقدر احتياطيه المؤكد من النفط بنحو 150 مليار برميل، وهو ثالث أكبر احتياطي للنفط التقليدي في العالم، وذلك بعد كل من السعودية وإيران. هذا علاوة على ما يتمتع به العراق من فرص واعدة للاستثمار، ومن جاذبة للمستثمرين العراقيين والعرب والأجانب.
وعلى الرغم من أن الخلافات السياسية قد عطلت إجراء تعداد سكاني منذ عام 2003، لأسباب تتعلق بتوزيع الثروات، وبطبيعة المناطق المتنازع عليها بين بغداد وأربيل، إذ كان خبراء صندوق النقد الدولي فوجئوا بتحول العراق من بلد يتمتع بفائض سيولة كبير إلى بلد يعاني من عجز متراكم في موازنة، مفترضاً إجراء التعداد في نوفمبر الماضي، لكنه تأجل بسبب ظروف جائحة كورونا.. على الرغم من ذلك فإنه وفق بيان وزارة التخطيط الذي حدد نسبة الزيادة السنوية بـ2.6%، يكون عدد سكان العراق أكثر من 40 مليون نسمة. وبما أن نسبة الفقر قدرت بنحو 40%، يكون عدد الفقراء 16 مليون نسمة، منهم 10 ملايين يعيشون تحت خط الفقر. وبما أن خفض قيمة الدينار سيؤدي إلى خفض القوة الشرائية للأجور، ما يرفع نسبة الفقر إلى 60% بعد انضمام عدد كبير من الطبقة المتوسطة إلى الطبقة الفقيرة، الأمر الذي يعرقل الخطة الاستراتيجية الوطنية للتخفيف من حدة الفقر، التي تنفذها وزارة التخطيط مع البنك الدولي وبرنامج الغذاء العالمي ومنظمة اليونيسف، وهي خطة مستمرة حتى أواخر العام القادم.

*كاتب لبناني متخصص في القضايا الاقتصادية