عندما استبشر العالم كله بولادة نظام عالمي جديد في بداية تسعينيات القرن المنصرم، تأمل الناس خيراً بهذا التطور الدولي الذي جاء على لسان الرئيس الأميركي حينها بوش الأب، وقد بشَّر الناسَ بقدوم نظام عالمي جديد خال من الدمار والخراب والحروب، ومعني في أولى مهماته بنزع أسلحة الدمار الشامل من المنطقة كلها والعالم أجمع بدون استثناء، لتنعم البشرية بالعيش الآمن والسعادة التامة، وكي يركز البشر على التنمية والبناء والنهضة وخدمة الحياة والبيئة.
إلا أن الحقائق والوقائع اليوم قلبت كل هذه النظريات رأساً على عقب، ونسفت كل التصريحات الواردة في هذا السياق والتي أصبحت الآن في خبر كان.. حيث كثُرت الحروب المجنونة المدمرة المنتشرة وتوسعت النزاعات بقسوة وشراسة وأصبحت أكثر بطشاً، وتأجج الصراع الطائفي المقيت، وارتفع الحس المذهبي البغيض، واختفى الحس الإنساني النبيل، وتلاشى الانتماء الوطني، وتوترت العلاقات الاجتماعية، وزادت الكراهية وانتشرت العنصرية.
وبعد أن أعمى قلوبَ الناس الطمعُ والجشعُ وأوغل في قلوب البشر الحقدُ والحسدُ وتبلدت مشاعرهم وماتت أحاسيسهم، وأصبح الكائن الآدمي يتحرك بالريموت كنترول غير مبال بأي مبدأ إنساني أو قيمة روحية. ومع التطور التقني والرقمي والتكنولوجيا الدقيقة، تحول الناس إلى أرقام إلكترونية صغيرة جداً، واستطاع النظام العالمي الجديد أن يحول الكون إلى قرية صغيرة بفعل التطور التقني الحديث، وأصبحنا أرقاماً صغيرة ومعلوماتنا الكثيرة أصبحت في شريحة ممغنطة أصغر من أظفر الخنصر.
وهكذا فإن رقعة النزاعات توسعت وفسحة الأمل ضاقت، ومساحات التوتر زادت، وأسلحة الدمار الشامل وغير الشامل تطورت وأضحت أكثر فتكاً.
نعم النظام العالمي الجديد طور كل شيء في الكون، لكنه فعل ذلك على حساب آدمية البشر وسلامهم الروحي وتقدمهم الأخلاقي. لقد أصبحت الحضارة عبئاً على الإنسان نفسه من فرْط سرعة التطور التقني الدقيق والتكنولوجي الاستهلاكي المذهل بطاقاته الإنتاجية الإلكترونية السريعة والمبهرة المذهلة، لكنه يتعارض مع الطبيعة الآدمية، لأن النظام العالمي الجديد يبحث عن الاقتصاد السهل والربح السريع على حساب صحة الإنسان ومستقبله.
لقد أصبح الإنسان وحياته في خطر بسبب وجبات الغذاء السريعة والمعلبات المصنعة بالمواد الحافظة والدواء المتنوع الكثيف والكثير والتصرف غير المسؤول من جانب الإنسان نفسه، لكثرة العروض المفرطة والمغرية والتسويق الهائل عبر وسائل التواصل الاجتماعي وغياب الرقابة الصارمة لحماية المستهلك من قبل المنظمات الصحية العالمية التي هي أصبحت هي أيضا محل اتهام بالتخبط والتلكؤ والفساد من خلال تصريحاتها المتضاربة والمتناقضة وغير المقنعة أصلاً في هذه المرحلة الخطرة والحساسة.
أما البشر فأصبحوا حقول تجارب في هذا العالم المسعور الذي يتكالب على الإنسان ويتسابق في استغلاله بلا هوادة. إنه نظام عالمي جديد علّب المشاعر والأحاسيس في صناديق مغلقة، مغلفة بأوراق جدران الموت مكتوب عليها كيف تتعلم الديمقراطية خلال ربع قرن قادم؟ هذه العبارة أرسلت لمواطن عربي لاجئ مهجر من بلاده، على ظهر سفينة غير شرعية، مستأجرة من قبل مافيات تهريب البشر، والمواطن العربي يتأمل الصورة الكاريكاتيرية على ظهر السفينة التي هرّبته من جحيم الحياة في بلده إلى غربة أخرى خارج وطنه؛ يقرأ ويتأمل صورةً لطفل أسمر أفريقي ضمر جسمه وبرزت ضلوعه من المجاعة! 

*كاتب سعودي