كان العالم كله متسمّراً أمام شاشاته، بالكمامات أو بدونها، وقوفاً أو قعوداً.. لكن الجميع انتظارات. كل ينتظر ما يحظى به من خطاب بايدن في مراسم تنصيبه، كل دولة ترهف آذانها، وتحدّ أبصارها، تلهفاً لسماع ما تحب سماعه أو قلقاً من سماع ما تخشى سماعه، وسط تساؤلات: كيف سيتطرق إلى ما يتصل بعلاقاتها مع كبرى الإمبراطوريات الحديثة في العالم، أي أميركا؟ فهل لبى بايدن تشوقات وتشوّفات ومخاوف وآمال هذه الدول في العالم، من الصين إلى روسيا إلى العرب إلى إيران إلى أوروبا إلى آسيا؟ ظننتُ في البداية أو قبلها أنه سيلجأ إلى نمط السيمفونيات المعهودة، مبتدئاً بنبرات هادئة، ثم التصعيد ثم التتويج، لكن فأجأني بأنه اختار المقام (الموسيقي الإيقاعي) في مبادأته ثم كان العكس، أراد منذ الكلمات الأولى من خطبته أن يغمر صوته الجموع القليلة، بنبرة «مفخمة»، أي كمدخل مفترض لتنوع المستويات الصوتية. وهكذا التقط منذ وقفته وإشاراته الأولى، أسماع الناس، وفضولهم، بطبقة صوتية عالية. إذن اختار بايدن «الخطبة» التقليدية. خفتُ أن تكون حجاجية أو على نمط الخطب النارية المتوهجة الزاعقة القاطعة، لكنه أرادها نغمة بلاغية (صوتياً) وحركات مرافقة بكلمات وجمل طويلة هنا أو متقطعة هناك. وهكذا أوحى بحسب مضامينها باكراً بأن درجات إيقاعاته ستتنوع بحسب مضامينها وأحاسيسها، وفي طلعاتها ونزلاتها اختار الأسلوب المؤثر عندما مرّ بحالته الخاصة (موت ابنه) فاغرورقت عيناه، وكاد الدمعُ ينهمر فكفكفه بحركة مسرحية بارعة، لكن ارتفعت نيرانه وتقطعت عندما جاءت المواقف الحاسمة. كورونا.. وواجب التزام قواعد السلامة، ثم عندما أعلن بصوت قاطع ساطع: «سنُلحق الهزيمة بالإرهاب الداخلي والعرقية العنصرية». إنه جديد في اجتراحه تلك النبرة وهو يتكلم مهدداً الإرهاب. ثم لاحظتُ التكرار في استخدامه عبارة «الوحدة» إحدى عشرة مرة، فالتكرار تأكيد للفكرة وعند بعضهم الآخر تمييع لها. إذن بين حدين ومستويين: الرحابة والهدوء في تطرقه إلى القضايا العمومية، والقطع عند تعرضه للإرهاب. وهذه رسالة إلى الذين أرادوا إحداث إنقلاب على الديمقراطية وتقسيم الشعب الأميركي (إنه الاختلاف وليس الخلاف). ثم رفع صوته كأن يصرخ: «انتصرت الديمقراطية».
استفاض بايدن في المسائل الداخلية حتى الإطناب، خصوصاً وأنه محاطٌ بين 27 ألف جندي يحرسون حفل التنصيب، مركِّزاً على كورونا والفوضى الأمنية، العدوّان اللذان أكد أنه سيتفرغ لهما على امتداد المراحل الأولى من عهده.
وكأن رهانه على إعادة اللحمة بين الأميركيين، وعلى رد العنف المتمادي والوحشي (الميليشيات المسلحة التي غزت الكابيتول معقل الديمقراطية) والعدالة (بالمساواة)، أوحى بأنه سيركز على هذه الأزمات، ثم بعدها عندما تصفو الأوضاع الداخلية، وهي عملية شاقة ربما تستغرق شهوراً أو أكثر، فسيعالج الأوضاع الخارجية والهموم التي خلَّفها ترامب.. فكان أن طمْأن مَن يريد أن يطمئنه في العالم بأن أميركا لن تنعزل أو تختزل وجودها في «أميركا أولاً» بل ستكون تجسيداً للشعار «أميركا في كل مكان».
ورغم ذلك، فهذه القضايا مثل أوضاع الشرق الأوسط، والنووي الإيراني، والصواريخ البالستية، وصفقة القرن.. كلها غُيبت، وكأن بايدن يقول لأصحاب هذه القضايا من لبنان إلى سوريا والعراق والصين.. إن أمور البيت الأميركي أولاً، ليبقيهم في دوامة الهواجس والقلق والانتظار!
إنها خطبة الخطوات الأولى.. فهل تكتمل أو «تجري الرياح بما لا تشتهي السفنُ»؟