لم يتوقع أحد أن مجموعة من الأميركيين من أنصار الرئيس دونالد ترامب الذي انتهت ولايته الأولى بهزيمته انتخابياً أمام الرئيس الجديد جو بايدن، يأتون من ولايات بعيدة عن العاصمة واشنطن ويقتحمون مبنى الكونغرس عنوةً وبالقوة وفي وضح النهار وعلى رؤوس الأشهاد، ثم يستولون على بعض محتوياته، في مشهد يذكّر بفوضى «الربيع» الكاذب الذي اجتاح بعض العواصم العربية وتسبب في سقوط أنظمتها، وترتبت عليه فوضى عارمة سُرقت خلالها ممتلكات تلك الدول وتم الاستيلاء عليها من قبل الغوغاء واللصوص والمرتزقة.
وقد جرى الحدث الأميركي في مطلع العام الجديد على أيدي بعض المحتجين الغاضبين من نتائج الانتخابات الأميركية، ففعلوا ما فعلوا نصرةً للرئيس المنتهية ولايته والمشكِّك في نزاهة الانتخابات التي فاز بها منافسه بايدن. إلا أن بعض وسائل الإعلام لم تسلِّط الضوء على هذه المشاهد بالكثافة ذاتها التي سلطت بها الضوء على الحوادث المشابهة في بعض البلدان العربية. والأمر كذلك من قبل وسائل التواصل الاجتماعي. أما بعض وسائل الإعلام العربية فتجد بعض قنواتها الفضائية مستغرباً من أن ما حدث لا يصح أن يحدث في دولة عظمى مثل الولايات المتحدة. بينما هناك قنوات فضائية عربية أخرى لم ترد التشفي في أميركا أو الشماتة بها وإظهارها بمظهر البلد غير الناضج، لأنها تعتبر واشنطن قبلة العالم وصانعة الحدث، لذلك لا ينبغي مقارنة أحداثها بأحداث دول الربيع العربي التي عرّتها الفضائيات العربية نفسها!
لكن بعض وسائل الإعلام ما فتئت تنافق وتكذب، وتزيف الحقائق وتضلل المشاهد.. هذا رغم أن أميركا نفسها أوضحت كل شيء، وبكل شفافية، ولم تترك شيئاً إلا ونشرته وأذاعته وبيّنته، بما في ذلك مكامن الخلل ونقاط الضعف، حتى أنها وصفت الهجوم على الكونجرس بالعمل المشين والمخزي والمرفوض، وبأنه من أعمال الغوغاء التي تسيء لأميركا وديمقراطيتها ونظامها القائم على المؤسسات واحترام القانون وحماية الحريات العامة. بل ذهبت السلطات الأميركية أبعد من ذلك، فشكلت لجاناً متخصصة للنظر في محاكمة الرئيس وعزله، وطالبت بسجن مَن قاموا بإنزال العلم وسرقة الممتلكات وإهانة مبنى الكونغرس وانتهاك حصانته بتقديمهم للمحاكمة أما القضاء الأميركي، لأنها سابقة خطيرة جداً وغير مقبولة أبداً. وصرح المسؤولون الأميركيون مذكرين العالم: نحن الولايات المتحدة الأميركية ولسنا إحدى جمهوريات الموز!
بيد أن بعض وسائل الإعلام العربية انزلقت بقشر الموز، واعتبرت أن الأميركان لا يتصرفون مثل تصرفات وسلوك وأخلاق بعض الشعوب العربية التي سرقت ونهبت وخانت بلدانها.. وساهمت بعض الفضائيات باستضافة القائلين بهذا الخطاب كمحررين ومنقذين للشعوب، يجلبون لها الديمقراطية المفقودة! وهو خطاب قديم نتج عنه أن وصلت مجموعات من الخارج على ظهر الدبابات الغازية وتسلقت من خلف الحدود لتسرق أوطانها وتدمرها وتهرب ثرواتها للخارج!
إنها المعايير المزدوجة لبعض الفضائيات العربية التي تهرف بما لا تعرف، وقد انكشفت أدوارها في تضليل المشاهد العربي وخداعه وخذلانه، وهي تنظر للحدث بعين واحدة، وتتحدث بلسان أعوج وتخفي الحقيقة!
ومع كل هذه التجارب والخبرات والأزمات مازال الإعلام العربي عاجزاً عن قول الحقيقة كاملةً وإظهار الحق الواضح وإنصاف مَن ضحَّوا بأنفسهم من أجل أوطانهم ودحر الغزاة والوقوف ضد التتار والمغول وهولاكو الجديد!
صحيح أن أميركا انخدش طرف وجهها بفعل تصرفات أنصار رئيسها المنصرف، لكنها ضمدت جراحها فوراً وأظهرت وجهها الديمقراطي الساطع من جديد، بعلاجات من صنع الولايات المتحدة نفسها وليست مستوردة من الخارج!

*كاتب سعودي