رهانات كبيرة تنخرط فيها كل من بريطانيا والاتحاد الأوروبي؛ الأولى لإثبات أن خيار الانفصال عن أوروبا سيمكّنها من تحقيق ازدهار اقتصادي غير مسبوق، معتمِدةً خصوصاً على قدراتها وعلاقاتها الدولية. والآخر لتجاوز أي خسائر يشكلها خروج بريطانيا من صفوفه، ولمواجهة تحدّيات كثيرة عصفت به وهدّدت تماسكه، رغم أن العديد من أعضاء الاتحاد الـ27 ليسوا كبريطانيا وليست لديهم المؤهلات الكافية للحذو حذوها.
ومع انتهاء الجدل البريطاني الداخلي الذي دار حول الخروج أو البقاء في الاتحاد الأوروبي، ثم الجدل حول الطلاق المنظّم أو الانفصال بلا صفقة، ظلّت الغلبة للاستحقاق الأكثر ترجيحاً، اتفاق «لا غالب ولا مغلوب» الذي اعتبرته لندن انتصاراً لاستقلالها واستعادةً لسيادتها. لكن تساؤلات اليوم التالي لم تتوقف عند مثل هذه الشعارات المبالِغة، بل انصبّت على المكاسب والخسائر الفعلية. وإذ حرص الاتفاق بشكل أساسي على حماية التجارة وتفادي أي اضطرابات فيها، إلا أنه حدّد مبدئياً القطاعات المعرّضة للتراجع، ومنها الخدمات المالية ذات الأهمية القصوى للندن، كذلك التبادلات العلمية والجامعية وتسهيلات العمل والإقامة وحرية التنقل. 
وتحتاج حسابات الربح والخسارة إلى وقت كي تظهر نتائجُها، وستواجه الحكومات على الجانبين ورشات تحكيمية لتقويمها والنظر في تعويضها وتصحيحها. غير أن الخسارة الأهم لشريحة كبيرة من الأوروبيين والبريطانيين تكمن في التغيير الذي فرض نفسه الآن على ملايين الأشخاص الذين يقيمون بشكل دائم هنا وهناك، أو كانوا يستفيدون من حرية غير مقيّدة للانتقال والعمل. وكان لافتاً مثلاً أن يطلب والد رئيس الحكومة بوريس جونسون الجنسية الفرنسية، وما هو إلا عينة من كثيرين يعتبرون أن الارتباط بأوروبا طوال خمسة عقود أسس لـ«ثقافة انتماء» تتخطّى الحدود الوطنية المعروفة.
ورغم أن ظاهرة «بريكست» سبقت انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، فإنها تزامنت مع صعوده ووصوله إلى البيت الأبيض، ومع تبنّيه سياسات شعبوية وجدت لها أصداءَ في مجتمعات أوروبية عدة. مع ذلك لم يتمكّن ترامب من إعطاء دفع اقتصادي لتلك السياسات في الخارج، إذ لم يلبِّ تطلّع لندن إلى اتفاق تجاري مع أميركا، ولو فعل لكان شجّعها على خروج تلقائي من أوروبا من دون اتفاق. الأكيد أن عدم اطمئنان حكومة جونسون إلى توجّهات إدارة جو بايدن، غير المتحمّسة لـ«بريكست»، جعلها تقبل تنازلات متبادلة للحصول على «خروج منظّم»، وهو في أي حال أفضل من الفوضى والاضطرابات في سلاسل الإمداد الغذائية والدوائية.
بين سوق أوروبية واسعة وسوق بريطانية محدودة، لم تكفِ الاعتبارات السياسية لتميل واشنطن (وشركاتها) إلى نمط تفضيلي لبريطانيا الحليف الأوروبي الأقدم، خصوصاً إذا صحّت التوقّعات باهتزاز وحدتها في اسكتلندا وغيرها. ويُتوقّع أن ينسحب هذا التوجّه على السياسة والدفاع والأمن، فهذه القضايا لم تكن موضع خلاف بين الأوروبيين وبريطانيا، بل تُركت عائمة، ويرجّح خبراء بريطانيون استمرار التعامل معها كالمعتاد، مع بعض الاستثناءات. وفيما يضمن وجود الجميع تحت سقف حلف الأطلسي، انسجاماً في المسائل الدفاعية الرئيسية (المواجهة مع روسيا)، يبدو أن لندن لن تهمل مشاريع الدفاع الأوروبي المشترك التي طُرحت ردّاً على توجّهات ترامبية قد يعود إليها بايدن ولو بأسلوب أقل تحدّياً. وتُرجّح أيضاً مواصلة دبلوماسية البيانات المشتركة (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) في شأن النووي الإيراني والشرق الأوسط، أو تتكيّف مع التغييرات «البايدنية».