بعد انحسار المد الإسلامي في جنوب أوروبا إثر سقوط الأندلس، حرص ملك صقلية الملك روجر (1095-1154) على حثّ المسلمين على البقاء كمواطنين، متعهداً بحماية حرياتهم الدينية. وكان من بينهم مجموعة كبيرة من العلماء. وكان من هؤلاء العلماء محمد الإدريسي، وهو عالِم كبير في الجغرافيا، وصاحب كتاب موسوعي عنوانه «كتاب روجر» نسبة إلى الملك، رسم فيه خريطة العالم، ووصف القارات الخمس. ولعل من أبرز نظرياته العلمية قياس قُطْر الكرة الأرضية. وقد تبين الآن وفق الدراسات العلمية الحديثة التي أُعدّت عبر الاستعانة بالأجهزة الإلكترونية الدقيقة، أن الإدريسي أخطأ في قياسه بنسبة أقل من أربعة بالمائة فقط.
ازدهرت صقلية في ذلك الوقت، وتحولت إلى منارة علمية في أوروبا. وكان المسلمون جزءاً من شعبها وبقيادة ملك مسيحي.
تسقِط هذه الحقيقة التاريخية النظرية التي تتهم المسلمين بالعجز عن العيش مع غيرهم، وبأنهم لا يستطيعون الانسجام مع الآخر، وبأنهم من أجل ذلك، إما أن يعملوا على تغيير مجتمع البلاد التي يهاجرون إليها، أو ينكمشوا عنه منغلقين على ذاتهم.
لا يوجد شيء في الإسلام يبرّر ذلك أو يدعو إليه. بل على العكس، فالإسلام يقول بقاعدتين جوهريتين تشكلان أساس بُعده الإنساني؛ القاعدة الأولى هي أن الإنسان مكرّم لذاته الإنسانية، وليس لأي دين أو عقيدة أو موقع يتبوأه، «ولقد كرّمنا بني آدم»، كما في نص القرآن الكريم. أما القاعدة الثانية فهي أن الله خلق الناس مختلفين، وتشاء حكمته تعالى أن يبقوا مختلفين حتى يوم الدين. لكنه دعاهم إلى التعارف. والتعارف لا يعني إلغاء الاختلافات، بل تفهُّمَها واحترامها وتقبّلها كواقع أراده الله أن يكون وأن يستمر. ومن هنا جاءت «اللاإكراهية» في الدين، ومن هنا أيضاً جاءت القاعدة العامة: «لكم دينكم ولي دين».
وفي ضوء هذه الثوابت الإيمانية، فإن المسلم، سواء أكان في فرنسا، أم في الولايات المتحدة، أم في الصين أم روسيا.. لا يحتاج إلى أكثر من أن تضمن له الدولة المضيفة حرية ممارسة شعائره الدينية. هكذا فعل الملك روجر، وليس مطلوباً من قادة الدول الغربية اليوم أكثر من ذلك. ولعلهم هم أنفسهم أيضاً لا يطالبون المسلمين بأكثر من ذلك.
يشكل الصراع الدموي الذي انفجر بين الكاثوليك والبروتستانت أساساً لصدور قانون 1905 في فرنسا، والذي وضع حداً لتجربة مؤلمة في تاريخ العلاقات بين مواطني الدولة الواحدة، متعددي الانتماءات الدينية. لا حاجة لاجترار تلك التجربة المأسوية في أي مكان آخر من العالم، بل الحاجة للتعلّم منها. ثم إن هناك تجارب يمكن الاقتداء بها أيضاً، ومنها صقلية مثلاً.
في علم الاجتماع نظرية تقول: إن التعريف الصحيح للمشكلة -أي مشكلة- هو نصف الطريق إلى حلّها.. وهو ما تحتاج إليه فرنسا حالياً، وما يحتاج إليه مسلمو فرنسا أيضاً.