بعد عزلة سياسية واقتصادية استمرت زهاء سبعة وثلاثين عاماً، بدأ السودان يتنفس الصعداء استعداداً لبداية تحرره من قيود المقاطعة التي قادتها الولايات المتحدة. وذلك بانفتاحه على العالم، مستفيداً من علاقاته العربية التي ساهمت بإعادة تدفق الاستثمارات إلى مختلف قطاعاته الاقتصادية، فضلا عن استعداد أوروبي وروسي وصيني لتنفيذ سلسلة مشاريع استثمارية في الزراعة والصناعة والنفط والذهب. هذا مع العلم إن إنتاجه من الذهب يصل 200 طن سنوياً، وبعائدات تبلغ 5 مليارات دولار. 
لقد بدأت واشنطن تنفيذ «عزل السودان» في سبتمبر 1983، عقب إعلان الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري ما أطلق عليه آنذاك «قوانين الشريعة الإسلامية». وأُدرج اسم السودان على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، بعد استضافته زعيم تنظيم «القاعدة»، وذلك استناداً إلى «قانون إدارة الصادرات» الأميركي لعام 1979 الذي اعتُبر وسيلةً لربط السياسة التجارية بالعمل ضد مشكلة الإرهاب الدولي، وأصبح هذا التصنيف بمرور الزمن مرتبطاً بعقوبات مختلفة تتجاوز القيود التجارية إلى وضع قيود مالية واقتصادية صارمة على المساعدات الخارجية. وانتهت هذه «العزلة» في 14 ديسمبر الحالي، وهو الموعد الذي أدرج فيه في الجريدة الرسمية نص بلاغ أصدره وزير الخارجية مايك بومبيو، بعد انقضاء مهلة إبلاغ الكونغرس (45 يوماً) بإلغاء اعتبار السودان بلداً راعياً للإرهاب. وتفتح الخطوة الأميركية الطريق أمام تقديم المساعدات وتخفيف الديون وزيادة الاستثمارات في السودان الذي يمر بمرحلة انتقال سياسي، ويعيش أزمة اقتصادية فاقمها وباء كورونا. وقال رئيس الوزراء عبدالله حمدوك عن هذا الإنجاز بأنه «يساهم في إصلاح الاقتصاد وجذب الاستثمارات وتحويلات مواطنينا في الخارج عبر القنوات الرسمية، وفي خلق فرص عمل جديدة للشباب». 
وقد دفع السودان ثمناً غالياً لذلك العزل السياسي والاقتصادي، والذي أدى إلى هروب الاستثمارات، وتراجع مستوى دخل الفرد وارتفاع نسبة الفقر، وتدهور القطاعات الاقتصادية.. وبرزت مقابل ذلك تجارة السوق السوداء، لاسيما بالعملة الصعبة، ما أفقد الجهاز المصرفي واحداً من أهم مصادره، وساهم في تدهور قيمة الجنيه وارتفاع الأسعار ونسب التضخم. وكذلك حرم السودان من القروض والمنح والهِبات، مع العلم أن ديونه الخارجية بلغت نحو 60 مليار دولار، لكن اللافت أن أصل هذه الديون لا يزيد عن 17.2 مليار دولار، والباقي عبارة عن فوائد وغرامات متراكمة بسبب التأخر في دفع الأقساط المستحقة. 
وفي أولى خطوات الدعم، بدأت وزرة الخزانة الأميركية بمساعدة السودان على سداد متأخراته، بتسوية بقيمة مليار دولار لدى البنك الدولي، واتفاق مع صندوق النقد على برنامج إصلاح اقتصادي، مع السعي لتخفيف أعباء الديون المترتبة عليه. ورغم أنه حصد في مؤتمر «أصدقاء السودان» في برلين 1.8 مليار دولار، فهو يواجه في موازنته للعام المقبل، والهادفة إلى تحقيق الاستقرار الاقتصادي، تحديات عجز مالي قد يتجاوز مليار دولار، مع ضرورة خفض التضخم الذي بلغ مستويات غير مسبوقة (نحو 240%)، مما أحدث ضغطاً كبيراً على معيشة السودانيين، وكذلك السعي لاستقرار سعر الصرف الذي اقترب من 300 جنيه للدولار، لأن عدم استقراره يضر بالتجارة الخارجية، ويحد من تنفيذ المشاريع الاستثمارية.

*كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية